تقارير ودراسات

الأحزاب السياسية في مواجهة تحديات القطيعة / الأستاذ مين عبد الله

الأستاذ مين عبد الله / محامي لدى المحاكم ،أستاذ جامعي ،رئيس الرابطة الموريتانية لحقوق الإنسان
و منظمة اشتروا ما تنتجونه

هل أصبح عالم اليوم ذا حساسية إزاء الأحزاب السياسية  ( المعروفة بالتقليدية )؟  أم إن مفهومي اليمين واليسار( مع أن اليسار في الحقيقة ليس سوى رفض للتماهي ) لم يعد يحمل الأمل إلى درجة أن المواطنين أصبحوا يرون فيه نفس الشيء ولو بتعبيرين مختلفتين ؟ أم هل إن الأمر يكمن في كون السياسي التقليدي ( لأن لا نقول السياسي المهني ) لم يعد يثير الحماس حيث إننا نرى الآن وفي كل مكان الصعود القوي للأحزاب المسماة المتطرفة وكذا صعود ( أنماط جديدة من السياسيين ) ؟ 

مهما يكن من أمر فإن التصاعد الملحوظ والمقلق في آن واحد للقوميين في أوروبا القديمة وأخذ دونالد تراب مقاليد السلطة  في الولايات المتحدة الأمريكية ونجاح أمانويل ماكرون في فرنسا ليدل دليلا قاطعا على سخط السكان على السياسة والطريقة التي كانت تدار بها .

وفي موريتانيا ، ولو أنه في الظاهر يبدو السياسي يسبح في ما تبقى من جمهوره الذي كان يتبعه،  فقد أصبح في الواقع هذا الجمهور الذي يجدر بهذا السياسي أن يستعرض فيه فنه السياسي غير متحمس لمواكبة هذا الأخير ، بل تكاد تقول مغمض العينين يتجه حيث تقذفه الرياح السياسية  ، فهل أصبح الحكم لديه نهائي ومنطوقه  : (كلهم سواسية وكلهم فاسدون)  ، طبعا هذا الحكم لا ينطبق على الجميع غير أن الشعور العام يشي بأن انعدام المصلحة وغياب التحفيز كي لا نقول السخط أمور بدأت تزداد شيئا فشيئا،  فإثر المشاكل التي يعيشها المواطنون ، والتي يصعب على السياسيين حلها ،ومع ذلك ترى هؤلاء يعطون  الكثير من الالتزامات سواء من  أجل الوصول إلى الحكم ، أو على شكل شعارات الحملات التي يقومون  بها ضد آخرين يريدون إبعادهم . 

إننا ومع وجود ما يربو على مئة من الأحزاب ( قليلة المصداقية باستثناء النزر القليل ) نتجه صوب الرقم القياسي في تزايد هذا السجل . وهيهات أن يكون لهذا الرقم القياسي أي دالا على الفاعلية . 

وبالتالي يبدوا أن السياسة لم تعد فقط فن الممكن بل أصبحت في بعض الأحيان فن جعل الضروري ممكنا ، وبكلمة واحدة  فإن السياسة ينبغي أن تتواءم مع القدرة على إيجاد حلول لمشاكل المجتمع في جو من الحرية واحترام قوانين الدولة ، بعيدا عن الرداءة والخطابات البراقة التي يحبها المغامرون الديماغوجيون المستلبون والمحابون الذين يستغلون الحقل السياسي ليستفيدوا هم أنفسهم بدل إفادة مواطنيهم .

وهذا يؤدي بنا إلى القول إن كثيرا من الأحزاب السياسية -الفاقدة للمعاصرة ، وللهيكلة ، والتي لا تمتلك رؤية ولا مشاريع واضحة،  ولا تساهم إطلاقا في تأطير السكان،  وظهور نخب وطنية – هي عبارة عن ” بور هواتف ” بعيدة كل البعد من أداء دورها الدستوري  . 

فمنذ إقرار الدستور في يوليو 1961 الذي انشأ التعددية الشاملة ، شهدت موريتانيا أوضاعا تفسر اليوم كون كثير من المواطنين يتبنون أكثر موقفا متجاهلا للشأن السياسي بدل أمل رؤية ذات مصداقية  لتسوية مشاكلهم من طرف أولئك الذين يعتلون المناصب العليا ، ومع الكثير من المغالطات التي يتعرض لها الشعب ، فإنه بدأ يشكك  في قدرة زعماء البلد وقادته على احترام التزاماتهم  ،  وهل لديهم الرغبة في أن يترجموا على أرض الواقع تلك النظريات الكبرى ألا وهي الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان دولة القانون ، فمنذ ما يناهز ثلاث عشريات ثم العبث بهذه الأمور وبصورة متكرره من طرف من كان من المفترض  أن يدافع عنها ويطورها ويحييها لصالح الجميع . 

بيد أن هؤلاء السياسيين في معظمهم بدل ذلك دافعوا عن مالا يمكن الدفاع عنه ، وتكفلوا بما لا يمكن التكفل به ، وتمتعوا بمزايا لا يستحقونها،  وذلك بسبب تموقعهم الانتهازي الذي تبنوه لا لصالح المجموعة الكبرى،  ولكن لصالحهم خصيصا

كم انقلابا جرى خلال هذه الفترة ؟ كم مهزلة انتخابية تم إقرارها ؟ كم وقع من سرقة ونهب لأموالنا العمومية على مرأى ومسمع من الجميع ؟ وفي الأخير كم زعيما  معروفا وبعد خطابات نارية وخرجات مشهودة حول إشكالات معروفة ، تحالف بعدته وعدده مع الجانب الذي كان ينتقده منذ وقت قليل …. إن نزعة رجل السياسة الموريتاني هذه تهدف إلى دعم كل ما يمت بمصالحه سواء أدى به ذلك إلى حبك الخطابات المزدوجة أو الترحال بدون ندم ولا احتشام . إن عدم الاقتناع والصرامة هو ما بعث في الشعب وعيا أكثر من أن الخلاص لن يحصل عن طريق هذه الفئة السياسية الخربة ، وبالتالي بدأ هذا الشعب لا يكترث بالشأن العام أو يتظاهر بمواصلة الحراك .

وعلاوة على كل هذه الأمراض التي تنخر الفضاء السياسي الموريتاني إنضاف تطور الخصوصيات مثل الطائفية والقبيلة والجهة ، هذا الثلاثي الذي أظلم الأفق وأبعد كل نجاح لأي جهد وغرس عدم التسامح والتشدد ورفض الغير . 

إن الخطر يكمن في كون الأحزاب والحركات تنشأ على أسس فئوية حيث لم يعد يوجد معنى للبرنامج الاجتماعي والتنمية المستدامة ، ونفاذ الجميع إلى المرافق العمومية باستحقاق وشفافية ,ثم إن الانتساب لم يعد محفزا إلا بالقرابة مع الزعيم والتزلف المبرهن أو المحتمل أو المرجو مع أمير الفترة .

لم تعد المنافسة هنا عن طريق المبادرة أو التجديد أو النقد البناء كما لم تعد تقاس بمدى التوصل إلى تصميم مشروع اجتماعي يمكن الحاكم وأغلبيته من إخراج البلد من الحضيض،  ويمكن المعارضة من أن تنتصب بديلا يوثق به وأن تكون مستعدة لتحمل عبء تسيير البلد . 

ثم إنه وأكثر من أي بلد آخر ، فإن الدول ذات الديمقراطية الناشئة تحتاج إلى موضوعية بدل الخطابات ، وإلى بركماتية بدل التحجر،  وإلى إيديولوجيات أقل والتزامات أكثر،من أجل تنافس سليم سبيلا إلى تنمية سريعة ومستدامة . 

إن التحديات التي تواجه دولة مثل موريتانيا ، بغض النظر عن الحاجة الملحة في التنمية هي القطيعة : القطيعة مع الطريقة المبتذلة في تسيير البلد ؛ وكذا الحكم بالنظر إلى الغد القريب وسياسة التقريب سواء على مستوى الداخلي أو الخارجي ،  وأيضا القطيعة مع سوء التسيير الاقتصادي حيث الصفقات بالتراضي، والتفاهمات الضمنية ، 

وأيضا القطيعة الأكبر يجب أن تكون مع تمويل المشاريع المحكوم عليها بالفشل لأنها تبدأ  بأمور تبد نزيهة ولكنها تطبعها المزاجية : إنشاء شركة للطيران ، وشركة للنقل  العمومي أو مؤسسات ، مع أنها تشكل مثالب مالية ، ليس لها من الفائدة سوى كونها بؤرة للزبونية والقرابة . 

تضاف إلى هذه التحديات وبكل أسف إشكالية فصل السلطات حيث أن الجهاز التنفيذي ما زال يقوم بالفعل والقول بدور الجهاز التشريعي ، رغم أنه تعرض حديثتا ولأول مرة إلى رفض مجلس الشيوخ التخلص من نفسه ،  أما في ما يخص استقلالية العدالة فحدث ولا حرج … 

وفي مضمار هذه التحديات ، وفي مضمار الحاجة إلى هذه القطيعة وفي منظور التغيير المنشود ، فإننا نسمع في كل مكان الحديث عن  الطريقة الجديدة لفعل السياسة:  (صهر الطبقة السياسية في الشباب وتقاعد الطبقة السياسية القديمة )  ناسين أن عمر رجل السياسة لا يقاس بعمر شرايينه بل يقاس بعدد السنين التي أمضاها في المسرح السياسي . فالرجل الذي عمره ثلاثون سنة وأمضى في النضال السياسي خمس عشرة سنة أسن سياسيا من الرجل الذي عمره ستون سنة ولم يمضي في السياسة إلى خمس  سنوات  ، وهذا يبرهن على أن هناك أمرا عظيما إذا ما حاولنا أن نضع في لائحة التقاعد وبسرعة كل هؤلاء الفاعلين السياسيين .

هل يعني هذا أن علينا أن ينتابنا القلق من عدم إمكانية وجود ” ما كرون موريتاني” في يوم من الأيام ؟ وهل الأمر سهل والفضاء الذي يتحرك فيه الفاعلون السياسيون الموريتانيون لا يترك هامشا لظهور ( السياسيين غير الميدانيين واللاحزبيين )  ؟ 

ومع ذلك فإن الأمر وارد حيث أنه للوصول إلى الحكم من الممكن في الوقت الراهن الاعتماد على قوى أخرى ليست سياسية فقط ، في الواقع تقوي النقابات شيئا فشيئا وتكتسب وعيا واستقلالية وينتظم المجتمع ، كما أن التطور المبهر لشبكات التواصل الاجتماعي أنتج مواطنا جديدا على دراية بما يقع بالقرب أو بالبعد منه ولم يعد بالإمكان إسكاته بسهولة. 

وهلا ذكرنا بأن الابتعاد من الشأن السياسي يعود إلى سأم سببه الأحزاب السياسية التقليدية ورجال السياسة الذين يديرون تلك الأحزاب ، فالتعهدات الانتخابية لم يلتزم بها، وحصيلة الأجهزة التنفيذية موضع جدل دائم . 

ويمكننا أيضا أن نلاحظ على الأقل نمطين من السلوك يترجمان هذا التحفظ : كون الاختيارات صارت شابة  وهو ما أدى إلى صعود أوجه جديدة في كل من فرنسا وكندا والولايات المتحدة  وأحينا صعود الشعبوية وتزايد الإمتناع عن التصويت ،  غير أن السؤال هو إن كانت هذه التغيرات ستنتج الثمار المرجاة ، أو ستنتهي في جو من الإحباط .

 على أية حال في مايخص دونالد ترامب  فإن الأمر غير المتوقع ، وبالنسبة للترودو بدأت التساؤلات تطرح ، أما فيما يتعلق بما كرون  فالوقت مازال مبكرا لإصدار حكم .

 ومهما يكن من أمر فإن الملاحظ أنه كلما أصبحت الوضعية محبطة ، كلما صار التغيير لا مناص منه . 

وبالرغم من كل هذا ، فإن الأمل يبقى مشروعا وفي يوم ما ، عاجلا أم  آجلا ، سيكون معسكر العدل أقوى من معسكر أبناء نعم نعم . 

وفي الحقيقة ، فإن الطبيعة تخاف الفراغ والاهتمام الذي يزداد اضطرادا وتغذية الحركات المواطنة ” من خارج الحقل السياسي التقليدي ” قد يجعل هؤلاء ينتصرون على أرضيتهم الخاصة ، مكان الأحزاب السياسية والهيئات الأخرى . غير أنه ليس بإمكانهم أبدا تعويضهم بالكامل لأن لكل أحد دوره ونصيبه . 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى