مقالات و تحليلات

الأشياء بمسمياتها: تعديل دستورى أم انقلاب على الدستور؟!/ عبد العظيم حماد

عبد العظيم حماد عبد العظيم حماد / رئيس تحرير جريدة الشروق السابق

لندع مؤقتا النص على تمديد فترة رئاسة الجمهورية من أربع إلى ست سنوات فى مشروع التعديل الدستورى المقترح، كما نشر، ولندع مؤقتا أيضا اقتراح إلغاء الحد الأقصى للفترات الرئاسية، فى هذا المشروع، ولنبدأ حديثنا بذلك النص المدرج ضمن التعديلات المزمعة، والذى يعد أغرب وأفظع ما سمع به فى أى دولة من دول العالم، منذ ظهرت الدساتير، وعرفت البرلمانات الحديثة، أقصد التعديل الذى ينص على استثناء أصحاب الخبرات النادرة من الموظفين العموميين من قيد عدم الجمع بين عضوية مجلس النواب، وبين الوظيفة العامة طوال مدة العضوية، على أن يحتفظ له بحقه فى العودة إلى وظيفته إذا فقد مقعده البرلمانى.

فى حدود علمنا فسوف تكون هذه هى أول مرة فى التاريخ المصرى، وفى تاريخ العالم، التى يقنن فيها الفساد الإدارى والسياسى، لا فى قوانين أو لوائح معوجة تخصص فى وضعها حاملو لقب «ترزية القوانين»، ولكن فى الدستور نفسه، أبى القوانين، والمرجع النهائى للشرعية، والملاذ الأخير للعدالة.

لا نظن أن أحدا يجهل الحكمة من إجماع الفقه والعمل الدستوريين فى العالم كله على ضرورة عدم الجمع بين المنصب الإدارى وبين عضوية البرلمان، وهى الحكمة المستمدة نظريا من قانون «أرسطو» الثانى لاستقامة الفكر، أى قانون رفع التناقض، إذ إن وظيفة البرلمانات الأساسية هى التشريع، والرقابة على السلطة التنفيذية، فكيف يراقب عضو برلمانى محتفظ بوظيفته رؤساءه من الوزير فصاعدا إلى رئيس الوزراء، ورئيس الجمهورية، ونازلا إلى نواب الوزراء، ووكلاء الوزارات، والمديرون العموميون… الخ. أما الفقه الدستورى فقد صاغ هذه الحكمة فى مبدأ سماه عدم تعارض المصالح، ليصبح من أهم مبادئ الحكم الرشيد.

ثم ما وجه الندرة الذى يجعل أشخاصا بذواتهم، ومعروفين بالاسم من بين 90 مليون مصرى أغلى وأنفس من أن يتركوا مناصبهم الإدارية من أجل عضوية مجلس النواب؟ فإذا كانوا فعلا بهذه القيمة والنفع العام، فلم لا يتفرغون لوظائفهم هذه التى ستخسر عبقريتهم فيها البلاد والعباد إذا تركوها؟ ولماذا يحرصون، وتحرص السلطة على وجودهم فى مقاعد البرلمان، بعائد مالى مضاعف من الوظيفة، ومن المكافآت البرلمانية؟ وكلاهما ضخم، وكلاهما من أموال دافعى الضرائب.

لكن عجائب هذه الفكرة الشيطانية لا تنتهى عند ذلك، إذ يرد فور سماعها التساؤل عن الجهة التى ستحدد من هو العضو ذو الكفاءة النادرة، الذى يحظى بذلك الامتياز، ومن هو العضو من فصيلة «العشرة منه بقرش»، الذى يتحتم عليه ترك وظيفته صاغرا؟، وما هى الضمانات التى ستمنع تحول هذا الاستثناء الدستورى إلى مدخل جديد لتحكم السلطة، وكأن أدوات هذا التحكم تنقصها، بدءا من إجراءات الترشح، إلى إدارة العملية الانتخابية، إلى إلغاء الاشراف القضائى، وصولا إلى ترتيب تشكيل اللجان، ومكتب مجلس النواب، رئيسا ووكلاء، وأمناء؟!

الواضح إذن أن إدخال ذلك التعديل المجاهر بشذوذه ضمن مشروع يستهدف أساسا إطالة وإطلاق فترة وجود رئيس الجمهورية فى منصبه، يشبه تعلق راكب الدراجة بشاحنة تمكنه من صعود التل، الذى لا يستطيع صعوده بالاعتماد على قدراته الذاتية، وفى رأى آخر فهذا نصيب البرلمانيين النافذين من الصفقة! لكن لا يمكن اعتباره ــ البتة ــ تعديلا دستوريا بأى مقياس، وإنما هو انقلاب على كل المبادئ والأعراف الدستورية الصحيحة، بل هو قضاء مبرم على روح الدستور والقانون، والدليل على ذلك أنه فى الحالات التى ينشأ فيها تعارض فى المصالح فى البلاد المستقرة دستوريا، ويتوافق المجتمع على أن النائب أو الوزير الذى تتعارض مصالحه مع وضعه السياسى هو حقا خبرة نادرة فى ظرف بعينه، فإن الحل يتمثل فى إصدار قانون خاص ينطبق على هذا الشخص وحده، ولمدة محددة، ولكنه لا يرتفع أبدا إلى مستوى المبدأ الدستورى المقنن.

ما الذى جرّأ أولئك النواب أصحاب المصلحة فى هذا المقترح على طرحه، فضلا عن التفكير فيه؟

لا جدال أنهم يدركون أن الهدف الأساسى من التفكير أو الشروع فى تعديل الدستور، هو نفسه انقلاب دستورى، بمعنى أن إطالة الفترات الرئاسية، وإطلاقها دون حد أقصى، هو ردة كاملة عن أهم إنجاز سياسى ودستورى ظل المصريون يحلمون به، ويسعون إليه، منذ وفاة جمال عبدالناصر مؤسس جمهورية يوليو 1952، وهو وضع حد أقصى للفترات الرئاسية.

لقد كان تحديد فترة وجود الرئيس فى منصبه بدورتين هو أهم المكتسبات فى دستور عام 1971، الذى وضع فى أعقاب انتصار السادات فى معركة الصراع على السلطة مع «مراكز القوة»، واعتبر التراجع عن هذا النص فى «تعديل الهوانم» نكسة كبيرة بحق.

كما ابتهج المصريون بتعهد حسنى مبارك فى بداية حكمه بعدم البقاء فى المنصب أكثر من دورتين، ولذلك فإن نقضه لهذا التعهد، لم يكن فقط تطورا محزنا، ولكنه كان البداية للسنوات العجاف فى الحياة السياسية المصرية التى حولت الدولة «الى أشلاء»، وأفضت فى النهاية إلى ثورة يناير.

وأما بعد هذه الثورة، فإن جميع التعديلات التى أدخلت، وأقرت على دستور 1971 سواء فى لجنة يحيى الجمل، أو لجنة طارق البشرى، وجميع الإعلانات الدستورية التى صدرت، وكذلك دستور الإخوان لعام 2012، والدستور الحالى ــ كلها حرصت أشد الحرص على مبدأ الحد الأقصى لفترات الرئاسة، وكلها اتفقت على ألا تزيد هذه الفترات على دورتين، والمعنى أن هذا المبدأ يرقى إلى مستوى «القداسة» الدستورية، وذلك مفهوم تماما، باعتبار أن تأبيد الرئيس فى منصبه هو المصدر الأصلى لكل الشرور فى الحياة السياسية المصرية، وفى مقدمتها الصراع على السلطة، أولا لتأمينه، وثانيا لوراثته، فضلا عن الجمود، وتكون مراكز القوة، وشبكات الفساد.

وتؤكد كل السوابق ــ التى أشرنا اليها ــ أن مثل هذه التعديلات تمرر بالشكليات الإجرائية، ولكنه لم تحظ فى أى مرة بالرضا الشعبى الحقيقى، لذا فإنها تنتقص من الشرعية السياسية للنظام، أو تطعن فى أساسها، وبذلك تصبح هى ذاتها مصدرا لعدم الاستقرار، وموضوعا من موضوعات الصراع.

ختاما: ليس بوسعنا الجزم بما إذا كان مشروع التعديلات الدستورية سوف يمر.. كله.. أو بعضه، أم أنه سيؤجل، أم سيلغى كلية؟! وإن كان الأرجح أنه سيمرر، ولا أقول سيمر، ولكن المرجح أيضا.. بل المؤكد أنه سيكون إشعارا آخر بأن على الجميع أن يحترسوا، لأن مصر تندفع إلى الخلف، بأقوى مما كان متوقعا فى أضغاث الأحلام أو الكوابيس.

 

المصدر

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى