مقالات و تحليلات

العدل و العدالة و سياسة الملك…/ احمد بابانا العلوي

احمد_بابانا_العلوي / مفكر وأكاديمي مغربي

صدر للاستاذ نبيل فازيو عن مؤسسة مومنون كتاب بعنوان”العدالة والعدل مساهمة في تفكيك برادايم الملك في الفكر السياسي الاسلامي الكلاسيكي”(2019)
الكتاب يتناول(من منظور معياري) كيف تمثل الفقهاء مفهوم العدل ونظروا الى قضية العدالة باعتبارها اس العلاقة الجدلية في الاجتماع السياسي الاسلامي ورهاناته..
وقد سبق للاستاذ نبيل ان تناول في كتابه”دولة الفقهاء” (2015) مسالة العدل والسلطة والعدالة..
في كتابه الجديد يبحث بصورة معمقة علاقة العدل والعدالة بالملك من خلال “برادايم الملك” على ضوء كتب الاحكام السلطانية والفقه السياسي والاداب والنصائح ..مع التركيز على “الماوردي /ت/450هجرية” باعتباره امام مدرسة الفقه السياسي في العصر الوسيط..لقد اهتمت بالماوردي دراسات قليلة ظلت نظرية وعامة ولم تتعمق في فكره رغم ان كتابه الاحكام السلطانية يعتبر مرجعا لدارسي تاريخ الافكار و المؤسسات السياسية في الاسلام ..
والعدل اسم جامع معناه الانصاف ورفع الجور وبه صلاح الحاكم والمحكوم وصلاح العالم..بجلب المصالح ودرء المفاسد وهو مناط السياسة الشرعية حينما تمارس السلطة من اجل احقاق الحق وابطال الباطل..
ويشكل الاهتمام بمفهوم العدل جوهر المشكلة السياسية..وقد ندر البحث والتنظير في موضوع العدالة في الفكر العربي المعاصر لافتقاره الى نظرية صلبة.. وعجزه عن الحسم في كثير من الاشكالات ومن ابرزها اشكالية العدل..
يقول الاستاذ نبيل بان غرضه من تاليف الكتاب اقتراح استراجية لتفكيك مسالة العدل في التراث العربي الاسلامي..ومساءلة فكرة العدل من خلال ” برادايم الملك” ويقصد به الاطار النظري والتفسيري الذي يحكم رؤية الفكر السياسي والاخلاقي ..الى العدل على وجه التحديد..بمستوياته المختلفة.. حيث ظل خاضعا لنموذج ذهني افرزه واقع الملك الذي حكم العقل الاسلامي..
ان التفكير في النموذج من خلال سؤال العدل يفرض ان نربط بين مفهومي العدل والملك..
ولمفهوم الملك وقعه على الثقافة السياسية باعتباره مؤشرا على نهاية عصر الخلافة والانتقال الى حكم الملك العضوض..
ان جل ما كتب حول مفهوم العدل تمحور حول مسالة الامامة وحرية الانسان عند المتكلمين وانسجام قوى النفس ونظام الكون عند الفلاسفة..
فالعدل من حيث هو قيمة متعالية يتجاوز نسبية الاجتماع السياسي ..
لقد طلت رؤية فقهاء السياسة متارجحة بين الواقعية التاريخية والمعيارية الشرعية ..
وهكذا تقاطعت في ذهن “الماوردي” نموذج الخلافة وتبدد رمزيتها امام تصاعد نموذج الملك وقد توجس من تضخم السلطة وانقلابها الى طغيان ..
من هنا جاء تمسك فقهاء السياسة بمفهوم العدل في مواجهة طغيان السلطان ..
وكان عليهم ان يفكروا في مشروعية السلطة على ضوء اكراه الشرع في معياريته واكراه الواقع في ضروراته ..ومن ثم الاقرار بقوة الواقع ..وتجدر الاشارة الى ضرورة التمييز بين مفهوم الشرعية الذي يدور حول فكرة الطاعة السياسية ومفهوم المشروعية بمعنى الخضوع للقوانين السائدة او المطابقة للقانون.. قد تكون السلطة مشروعة ولكنها فاقدة للشرعية اذا فقدت ثقة الجماعة او الرضا العام ( المعتقدات والقيم الجماعية كبعدين للشرعية) وعندما تنهار شرعية النظام يصبح غير شرعي واكثر تسلطية واستبدادا ..
الرؤية الاسلامية لم تفصل بين الشرعية السياسية والمشروعية القانونية ..فالشرعي هو ما طابق احكام ومبادئ الشريعة ومفهوم السياسة الشرعية المركب يؤكد ان الشرعية الاسلامية تعد مناط الشرعية السياسية وبالتالي فان وصف السياسة بالشرعية يجعلها وثيقة الصلة بروح الشريعة و مقاصدها لاجل تحقيق العدل فالسلطة لا تصبح شرعية الا اذا التزمت بمعايير الشريعة و مقاصدها في مناهجها وغايتها ..
والعدالة بشروطها. الجامعة. هي قوام الخلافة و مصدر شرعيتها لان تحقيق العدل غاية الشريعة الاسمى ..
يقول “ابن القيم الجوزية(691/751/هجرية) بان الشريعة عدل كلها ..وكل مسالة خرجت من العدل الى الجور ومن المصلحة الى المفسدة فليست من الشريعة وان دخلت فيها بالتاويل ..
ان النظر الى متن فقهاء السياسة باعتباره نظام وتدبير لمعنى الاجتماع السياسي جعل المؤلف يحرص على مقارنة مقالات الفقهاء السياسية بصنوف الخطابات المنافسة واعتبر رؤيتهم تسعى الى بلورة فهما معقولا للواقع ومتغيراته.. الامر الذي يسمح بتفكيك نصوصهم لاجل الوصول الى مرتكزات الوعي السياسي الاسلامي في العصر الوسيط المتجذر في نموذج الملك ..
يضم الكتاب فصولا تتناول جوانب اشكالية للعدل خاصة ماتعلق بالاداب السلطانية والفلسفة السياسية وعلم الكلام اضافة الى فقه السياسة الشرعية..
وغرض المؤلف من وراء ذلك ابراز تصور هذه المستويات الفكرية لفكرة العدل..
و من المسلم به ان للنص عالمه وليس من اليسير فصله عن تاريخ تاويله وفهمه ..
وكل نص له القدرة على احتواء مفاهيم عابرة للحقب التاريخية.. وبالتالي من الصعب عزل نصوص الفكر السياسي الاسلامي عن الثقافة التي انتجتها ..
و من الواضح ان “برادايم الملك” الذي وظفه المؤلف في قراءة كتابات فقهاء السياسة تظهر اهميته في قدرته التفسيرية التي تتيح لنا النظر الى السياسة وفهم تشكلاتها وابعادها ..وذلك من خلال دراسة مصطلحات السياسة الشرعية على الصعيد الدلالي والمنهجي والفقهي لكي نفهم كيف تمت صياغة “نظرية الخلافة” من طرف فقهاء السياسة وفلاسفة الحكم..
ان معنى مفهوم الخلافة والامامة واحد عند فقهاء السياسة الشرعية ..فالماوردي يعرف الخلافة او الامامة بانها “خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا”و يعرفها ابن تيمية بانها النيابة عن النبي في سياسة الدنيا والدين.. ويرى ان الامامة من او جب واجبات الدين بل لا قيام للدين والدنيا الا بها ..لان الجماعة لا بد لها من امام يقيم الاحكام ويصون المصالح وقيم “دولة الصلاح والاصلاح” ويجب ان تتم بيعة الامام بيعة حرة خالية من شوائب الاكراه ..
ومن شروط الامامة عند ابن تيمية “العدالة” وايضا المشورة والمبايعة ..اما طاعة الامام التي اختلف فيها فان ابن تيمية يقر بان الامام يطاع في عدل ولا يطاع في معصية..
ويقسم ابن تيمية الحكام الى قسمين: حكام هم خلفاء نبوة استوفوا شروط الخلافة بالمشورة الصحيحة والمبايعة و القيام بالعدل والحق اما اذا فقدوا شرطا من هذه الشروط فان حكمهم يتحول الى “ملك” ( ملك عضوض) يقوم على التغلب..
ويتفق الفقهاء على ان طاعة الملوك المستخلفين ( طاعة المتغلب) تكون في غير معصية تجنبا للفتنة ..
اما ابن خلدون فان مفهوم الخلافة والملك عنده ينطبق على مفهوم الدولة العامة كما تحدث عنها في مباحث المقدمة..حيث تناول شكل الحكم ونوع السياسة التي يعتمدها الحاكم في تدبير شؤون الدولة والمبادئ التي يستند اليها في ممارسة الحكم..
وقد تطرق الى موضوع الحكم او الملك انطلاقا من رؤيته للاسس التي تقوم عليها الدول وعوامل تطورها واضمحلالها..وبحث عن الوازع الذي يحمل الناس على اقامة ملك او دولة .. ووجد انه يجب ان يرجع في ذلك الى القوانين السياسية التي تنقاد اليها المجتمعات وتحكم الدول و يصنف هذه السياسات الى سياسات “دينية او عقلية او مدنية”ونتيجة لذلك قسم الملك الى :
– الملك الطبيعي وهو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة
– الملك السياسي هوحمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح ودفع المضار.
– واما الخلافة فيعرفها ابن خلدون بانها هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الاخروية والدنيوية الراجعة اليها اذ ان احوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع الى اعتبا رها بمصالح الاخرة فهي في الحقبقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
وهكذا نستنتج مما سبق ان المشكلة الاساسية التي شغلت بال مفكري الاسلام وفقهاء السياسة والحكم وملكت عليهم تفكيرهم ووجهت ابحاثهم ..تمحورت حول الدولة ونظام الحكم وفن الاداب السلطانية في تدبير الحكم ..سواء بمقتضى الشر ع او بمقتضى العقل او بالتغلب والقهر..
من هذا المنطلق تم حصر انواع الحكم في نوعين رئيسين هما “الخلافة” و”الملك”
لم يهتم العلماء بالاسباب التي ادت الى انقلاب الخلافة الى “ملك عضوض”بل عملوا على الدفاع عن سلطة الخليفة (الملك) وهيبة الخلافة وقاموا باضفاء الشرعية على “حكم الملك” حرصا على استمرا رية الخلافة السنية ولو في قالب نظام “ملك عضوض ..”
وقد برر الماوردي موقفه في خدمة الخلافة باحياء الفكرة وبعث النشاط في المؤسسة ووجوب الخلافة عقلا وشرعا وضرورتها الحيوية للدين والدنيا ..
ونهج ابن تيمية موقفا مماثلا فكان همه تحقيق اقامة دولة اسلامية وتقوية دعائم النظام فان لم يمكن اقامة العدل الذي يحمي الديار ويحسن التدبير.. ووجد الامير القوي الحسن الراي والتدبير وان لم يكن عدلا في كل احواله فرضت طاعته وهو بذلك ينهج منهج اهل السنة والجماعة ..
و جملة ما يقال ان الشريعة دون قوة تدعمها تصبح مثالية غير قابلة للتحقق في الواقع وان السلطة بدون شريعة تصير طغيانا محققا… فالشريعة توفر المنهج وتضمن القصد فتتحول القوة الى سلطة تكتمل فيه القدرة والبصيرة..
فشرعية السلطة في مقاصد الشريعة ومقاصد الشريعة في تحقيق العدل..
واذا كان العدل قوام الدول واساس الحكم والملك فعلى ابناء الامة جميعا ان يتعاونوا في امانة الحكم وامانة الاصلاح ..ولهذا كانت امانة الحكم في الامم الحية مقرونة بامانة مثلها وهي امانة الدعوة والارشاد..
(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(104) سورةآل عمران
– وشر البلاء ان تمتحن الامة في فساد نظامها وقواعد حكمها بسبب بطلان الدعوة والتغاضي عن المنكرات

 

المصدر : الكاتب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى