مقالات و تحليلات

العراق، هذا أوان التغيير /سمير الصميدعي

سمير الصميدعي

في عام 2004 انتقلت من الدور السياسي الذي قمت به سابقا (المعارضة ثم مجلس الحكم ووزارة الداخلية) إلى دور دبلوماسي (ممثل العراق الدائم في الأمم المتحدة ثم سفيره في واشنطن) وكان ذلك لأني أدركت أن القافلة السياسية في العراق خرجت عن مسارها المأمول وبدأت تغطس في مستنقعات الطائفية والفساد، بدلا من التوجه لبناء البلد الذي أنهكته الدكتاتورية والحروب، ولم يملك البوصلة التي تساعده على استغلال الفرصة المواتية لاستخدام موارد البلد الوفيرة والرغبة العالمية في مساعدته لاستعادة عافيته، بمساندة عالمية سياسية ودبلوماسية وفنية ومالية.

أدركتُ أن الفرصة بدأت تتلاشى، وأن علي أن أتخذ لنفسي موقعا جديدا خارج العملية السياسية أعمل من خلاله بكل طاقتي للحفاظ على مصالح العراق، والدفاع عنها، في نطاق أهم علاقتين خارجيتين للعراق، وهما علاقته بالمنظومة الدولية (الأمم المتحدة) وعلاقته بالولايات المتحدة، الدولة التي أحدثت التغيير، والتي كنا نأمل بشيء من السذاجة، أن تديره بالوجهة الصحيحة.
وعلى مدى قرابة ثماني سنوات (من 2004 إلى 2012) كنت أتابع بقلق وباهتمام شديدين التدهور الذي يجري في الداخل والذي شهدتُ بوادره.
كنت أتابع، وأنا متشبث بأمل بدأ يضعف مع الوقت، أن الإصلاح آت عاجلا أم آجلا، وما علي إلا أن أقوم بواجبي على أتم وجه، والزمن كفيل بأن نتعلم من أخطائنا، ونبني ثقافة جديدة تتواءم مع طموحاتنا في الحرية والديمقراطية والحكم الرشيد.
عندما كنتُ في مجلس الحكم كان أحد كبار المسؤولين الأميركان يصفني بالمتفائل، وحينما قابلني في واشنطن بعد سنوات سألني إن كنت لا أزال متفائلا فأجبت: نعم، ولكن المدى الزمني تغير من خمس سنوات إلى- ربما- عشرين سنة. ومع مرور السنوات تمدد المدى الزمني حتى توارى أفقه.
حين تركت عملي الدبلوماسي في بداية عام 2012 التزمت موقفا أقرب إلى الإيجابية منه إلى السلبية، وتجنبت التصريحات الحادة أو الهجومية، من مبدأ “دفع الضرر مُقدّم على جلب المنفعة”، ولكن قناعاتي كانت تزداد تشاؤما مع الوقت، والويلات التي تزاحمت في الولاية الثانية لنوري المالكي، حيث تهيأت الأرضية لانتكاسة 2014، وانكسار الجيش الذي بني بطريقة كارتونية سهلت إقامة دولة داعش، وما رافقها من دمار وتضحيات دفع ثمنها الشعب العراقي ولا يزال. كل ذلك وأنا أتساءل: هل يمكن أن تزداد الأمور سوءا؟
فالإرهاب ومخلفاته وذيوله، والمحاصصة الطائفية في الحكم، والفساد الخرافي المكشوف شبه العلني الذي أصبح ركنا من أركان النظام السياسي، والذي أصبح طاردا للاستثمار والنماء الاقتصادي، وتفشي ثلاثي الجحيم (الفقر والجهل والمرض)، والتردي في كل شيء، بحيث صار العراق في أدنى التراتبية العالمية في التعليم والصحة والأمن والزراعة والصناعة والنقل والبيئة والكهرباء والخدمات وحقوق الإنسان والثقافة والفنون، وكل ما يرفع الإنسان ويحسن حياته.
كل هذا لأن الدولة أفرغت من الداخل، واختزلت في وعاء لتوزيع المنافع والغنائم، فأصبحت شبح دولة، وبسلطة واهية، وإرادة ضعيفة، وهيبة منتهكة. وانتقلت السلطة الفعلية في القضايا الهامة إلى الدولة العميقة والميليشيات التي تدين بالولاء إلى دولة أخرى، وإلى قوى إجرامية محلية متنوعة.
أما القادة السياسيون فهمُهم الأول الإبقاء على مصالحهم بالاحتماء بمن يضمنها لهم، وليس بناء الدولة والمواطن. وصرنا نشاهد المزايدات التي تدعو إلى السخرية. فحيتان الفساد يعلنون عن أهمية محاربته، والطائفيون حتى النخاع يلعنون المحاصصة الطائفية، بينما هم ملتزمون بها بإصرار.
وقد شاهدنا ونشاهد تفاقم الاستياء الشعبي إزاء هذا الوضع المتردي من خلال المقاطعة الواسعة للانتخابات الأخيرة، وخروج مظاهرات عارمة في البصرة وغيرها، تندد بالفساد وسوء الإدارة والمتاجرة بالدين.
وأثناء ذلك انبرى عدد من المثقفين والكتاب الوطنيين الذين هالهم ما يجري في وطنهم من تدهور، بشجاعة وإخلاص، لفضح وتشخيص آثام الوضع الحالي في العراق، لكن في الغالب دون الخوض في كيفية الوصول إلى البدائل الأفضل.
قد يكون رسم الحالة المنشودة أمرا يسيرا، إذ هو نقيض ما عليه البلاد الآن: استقرار أمني، استقلال القرار السياسي، مصلحة العراق أولا، إنهاء المحاصصة الطائفية، القضاء على الفساد، الفصل بين السلطات واستقلال القضاء، بناء دولة المؤسسات على أسس الكفاءة والمهنية.
إن الذين يتظاهرون لا يعرفون كيف يحققون مطالبهم المشروعة، والذين ينظّرون لا يرسمون الخطوات لكيفية نقل البلاد من الحالة المزرية التي هي فيها إلى الحالة الأفضل التي نصبو إليها. وهو ما يجعل الدعوة للإصلاح قاصرة.
إن العجز عن تلمس خطوات إقامة خطوات الإصلاح يصب في مصلحة الجهات المستفيدة من بقاء الوضع الراهن، (داخلية كانت أو خارجية)، خاصة وأنها غير مكترثة بالمعاناة البشرية وانغلاق آفاق المستقبل.
وفي مجالس العراقيين في داخل العراق وخارجه، في لقاءات عابرة أو ندوات منظمة، تلاحَظ الظاهرة ذاتها. تشخيص المرض، مع غياب تشخيص العلاج، وتنتهي جميعها تقريبا بحالة من اليأس والعجز الذي يرثى له.
ومن أسباب ذلك أن الوضع الداخلي غاية في التعقيد والتشابك، مع وجود مصالح لقوى مسيطرة تعمل على إدامتها وحمايتها. وهو بعد ذلك، مترابط ومتداخل مع وضع إقليمي سمتُه الرئيسية الاستقطاب والمواجهة بين جمهورية إيران الإسلامية وحلفائها، والولايات المتحدة وحلفائها. وبالنسبة لإيران فإن هذه المواجهة مصيرية لنظام ولاية الفقيه وهي مستعدة لأن تخوضها إلى آخر عراقي.
إن الوضع الشاذ والمزري في العراق لا يملك عوامل ديمومته، فهو هش ومعرض للانهيار في أي هزة داخلية أو خطة خارجية يمكن أن تنحدر به إلى هاوية لا قرار لها، ولكن هناك أيضا عوامل يمكن أن تتحول إلى عناصر دفع إيجابية نحو الإصلاح وهذه بعضها:
1 – الفشل المدوي للعملية السياسية الحالية على كل الأصعدة وبكل المقاييس ووضوح هذا الفشل للجميع.
2 – نتيجة لذلك تنامى الرفض الشعبي للوضع الحالي، لاسيما بين أوساط الشباب الذين لا يرون مستقبلا لهم مع دوام هذه الحالة، وأوساط الطبقات المحرومة التي يقع عليها القسط الأكبر من المعاناة، واحتياجاتهم للحد الأدنى من متطلبات العيش، ولا نقول العيش الكريم. هذا هو المحرك لموجة الاحتجاجات التي اجتاحت العراق ولن تتوقف ما دام الوضع الحالي كما هو.
3 – تراجع القدرة التعبوية للشحن الديني والطائفي لانكشاف زيفه وتنامي الرفض الشعبي له.
4 – الضغوط السياسية والاقتصادية التي تتعرض لها إيران واحتمالات تفاقمها وانعكاسات ذلك على الوضع السياسي في العراق.
5 – وجود قنوات تكنولوجية عالية الكفاءة للتوعية والتعبئة الجماهيرية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي على الإنترنت.
6 – الإنترنت وإن كانت مليئة بالسموم التي تبثها قوى الظلام والجهات المستفيدة من هذا الوضع إلا أنها لا تزال مهمة جدا، لأن الواقع المُعاش يدحض ادعاءات المشوشين. فبضاعتهم الفاسدة من الأكاذيب والنعرات الطائفية أصبحت مكشوفة كاسدة.
ولجملة هذه العوامل، فإن العراق الآن مهيأ للتغيير كما لم يكن في الحقبة الماضية. وهو ما يستوجب التحرك للعمل من أجل المشاركة في إدارة هذا التغيير وتوجيهه باتجاهات إيجابية، وتجنب المطبات الخطيرة التي سوف توضع في طريقه، بلا شك، ومنها الانجرار نحو العنف، وربما حتى إلى حرب أهلية. وهنا يأتي دور قيادة وطنية حكيمة لدعم الحراك الشعبي وتوجيهه في الاتجاه الصحيح.
في هذا الوقت إذا هناك ما يدعو إلى طرح التشاؤم والنظر إلى المستقبل بعين جديدة، بعيون الشباب الذين يتوقون إلى حياة تليق بالبشر، وقد ضاقت بهم السبل فخرجوا يتلقون الرصاص بصدورهم العارية، وبعيون الأطفال الذين سُرقت منهم طفولتهم، وكل الضعفاء الذين يستنجدون بمن ينقذهم.
ينبغي أن ننظر إلى المستقبل لا بعجز واستسلام، ولا من خلال التمنيات والأحلام الوردية، وإنما بمحاولة جادة لوضع خارطة طريق واقعية ومقنعة للتحول الذي طال انتظاره.
وليس لدي أي وهم بأن هذا الطريق سهل أو أن النتيجة المرجوة في متناول اليد في وقت قريب، فالعوائق كثيرة ومعروفة لا داعي لتكرارها هنا، وإن كان من الضروري الخوض في تفاصيلها وسبل معالجتها في الوقت المناسب.

نقلا عن “العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى