مقالات و تحليلات

رؤية إستراتيجة لعالم جديد يتشكل – تراكم النكسات والهزائم / صباح علي الشاهر

صباح علي الشاهر / كاتب عراقي

في ذروة الصعود الغربي ، بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي وما كان يُسمى المعسكر الإشتراكي ، أعلنت أمريكا عبر سياسيها أن العالم أصبح أحادي القطبية، أما مفكريها فقد أعلنوا نهاية التأريخ، كانت هذه هي مرحلة التيه والضياع لشعوب عديدة في العالم ، وبالأخص ما كان يعرف بالبلدان النامية، أما ما كان يعرف بشعوب المعكسر الإشتراكي فقد بدلوا جلودهم وإنضموا كجنود مخلصين للمعسكر الرأسمالي الذي حاربوه عقوداً ، لا بل أنهم أصبحوا أشد أعداء من كانوا جزءاً منهم ، جورجيا ، وأوكرانيا ، وبلدان البلطيق ، وبلغاريا ، نموذجاً ، وأصبحت وجهة حركات يسارية وأحزاب شيوعية البيت الأبيض بدل الكرملين ، حيث صحوا فجأة وأكتشفوا أهمية الليبرالية والديمقراطية الغربية، وخطل النضال ضد الإستعمار والرأسمالية التي هي مرحلة ضرورية ولازمة للتطور، وإنقلب بعضهم ليسخف كل ما كان يدافع عنه سابقاً بذريعة أنهم كانوا مخدوعين، وليصبحوا فرسان الإعلام الرجعي، وإعلام التخلف، وبعد أن كان لينين معبوداً أضحى مذموماً، وبعد أن كان التغني بالوطنية والنضال علامة النضج والرقي أصبح رديفاً للتخلف والإنغلاق ، وإبدلت مصطلحات العدالة الاجتماعية والإشتراكية، بمصطلحات عائمة كالمدنية ، وأبدلت النقابات العمالية والمهنية ، حيث مصالح الأعضاء والمنتسبين وأضحة توحد منتسبيها ، بمنظمات المجتمع المدني الزئبقية التي لا يستطيع أي منها إكتشاف مشترك يوحد المنتسبين إليها خارج التهويمات البلاغية والشعائرية، وتحوّل الوحدويون بقدرة قادر إلى دعاة للتجزئة والإنفصال ، مستلهمين مثال الدويلات المجهرية في النمو، وأصبحت علامة التقدمي والمتطور هي تسخيف كل القيم ، وفي مقدمتها قيم الوطنية والسيادة ، وطفقوا في تحقير كل الرموز قديماً وحديثاً ، متناسين أن سيدهم الأمريكي يقدس علمه ، ويحشره في كل شيء  مع أن علمه كباقي الأعلام خرقة ، هم يميزون بين الخرقة والرمز ، ونحن لا نميز ، لقد أصبحنا بدون لون أو طعم أو مذاق ، لقد دخلنا عصر ما بعد بعد الحداثة !

لسنا ممن يحنون لمرحلة الحرب الباردة، إذ لم تكن تلك المرحلة مرحلة وردية ، لكن الشعوب المستضعفة ، والتي كانت مستعمرة ، كانت تجد هامشاً بين العملاقين ، وكان هذا الهامش يتسع تارة ويضيق تارة أخرى ، لكنه بالمحصلة يوفر لهذه الدول وشعوبها بعض المكاسب النسبية ، أما بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي والمعسكر الإشتراكي فقد فقدت هذه الدول هذا الهامش، وبفترة قياسية تعرضت إلى دمار لا مثيل له، ما زالت تبعاته مستمرة لحد الآن ، ولربما ستبقى لأمد طويل . دمر العراق وأحتل ، وهو أول بلد يحصل على إستقلاله الشكلي في القرن العشرين ، وأصبح أول بلد يُحتل في القرن الواحد والعشرين، ودمرت ليبيا وتشظت، ولا أحد يعرف حتى الآن أين أصبح الذهب الذي كان يحتفظ به القذافي كرصيد للدينار الأفريقي ، وتقدر قيمته بمئات مليارات الدولارات، وتسرب السلاح الذي هو بمئات المليارات أيضاً ليكون بأيدي المنظمات الإرهابية التي أكملت ما بدأه الغرب من دمار، وتعرضت سوريا إلى سحق منظم ومُخطط له ، ودُمرت اليمن ، وأفلحت تونس في الخلاص من المصير المظلم الذي كان بإنتظارها ، وأجل موضوع مصر إلى حين، ولم يختلف وضع الدول الأفريقية ، خصوصاً تلك التي كانت محسوبة على المحور المنهار من الدمار الذي حل بأمة العرب ، وكأنها تُعاقب على مرحلة التحرر ، ورفع رأسها بوجه الدول المستعمرة ، وأنعدمت أو تصاغرت السياسات النقدية المستقلة في بلدان العالم الثالث ، وبات صندوق النقد الدولي هو من يتحكم بالسياسات النقدية ، لا وزارات المال أو البنوك الوطنية المركزية .

وخلا العالم من جواهر لال نهرو، وجمال عبد الناصر، وأحمد سوكارنو، وبومدين ، وتيتو، وهوشي منه ، وأحمد سيكتوري ، ونكروما، وحل محلهم رؤساء وقادة خوارين، وغير مؤهلين، مذعورين، ومنعزلين عن شعوبهم ، يعملون كل ما في وسعهم لأرضاء أمريكا، التي لا يرضيها العجب، فكانت حيرتهم بمقدار خيبتهم ، وبعد أن كنا نسمع صوت غروميكو القوي والواضح وهو يدافع عن حق الشعوب في الحرية، أصبحنا نسمع فحيح المتقلب المداهن، الصهيوني المتلون تشيفرنادزة ، والذي عبر أحسن تعبير عن المرحلة الإنحطاطية التي وصل إليها الإتحاد السوفيتي في مرحلته الأخيرة .

أكان هذا هو نصر قوى الإستغلال وإستعباد الشعوب المؤزر ؟

بدا الأمر للكثيرين كذلك ، خصوصاً بعد إنهيار قوى التقدم الفاضح، وتهاوي قلاع كانت إلى وقت قريب منيعة ، ولم تعد ثمة بوصلة تشير إلى أيما هدف ، فكل الأهداف أضحت محط سخرية من لدن الذين كانوا مثال التشدد، أولئك المؤمنين لحد النخاع بالحتميات الـتأريخية وإذا بهم أول من يستهزيء بالوطنية، والإستقلال والسيادة ، وكفاح الشعوب لنيل حقوقها المشروعة، لقد حلت ” العقلانية كمصطلح بديل عن ” النضال” الذي عدوه المقابل الضدي للعقلانية ، وأعتبروا الرموز الوطنية والقومية والثورية، ليس أكثر من ديناصورات تجاوزهم الزمن ، ولم يسلم من سخريتهم حتى أولئك الذين رحلوا بعد أن حققوا لشعوبهم الإستقلال والسيادة ، ووضعوا بلدانهم على خارطة الدول الفاعلة في هذا العالم.

وسط التشاؤم ، وتراكم النكسات والهزائم ، لم يعد ثمة من يسأل  “هوشي منه” أم “برنارد ليفي” ، “كوشنير” أم “جيفارا”، ولا حتى ” غاندي ” أم “يلماز خليل زادة” أو ” نلسن مانديلا” أم ” كوهين”؟

 

المصدر: رأي اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى