الأخبارالصدى الثقافي

قبل حوالي 200 عام .. مستشرق سويسري يعدّد مزايا اللغة العربية

الصدى – متابعات/

جان هَمْبِرْت* | ترجمة: عبد اللطيف العبوبي
مساهمة في النقاش حول القضايا اللغوية بالمغرب، تنشر هسبريس ترجمة أعدها الدكتور عبد اللطيف العبوبي لخطاب ألقاه المستشرق واللغوي السويسري جان هَمْبِرْت عام 1823 في كلية جنيف، يعدد فيه مزايا تعلم اللغة العربية وأهميتها.

خطاب في منفعة اللغة العربية

حضرات السادة،

ينغرس أصل اللغة العربية عميقا في غابر الأزمان. البعض يظنها أم العبرية والبعض الآخر يعتقد وهو على حق أنها متفرعة عنها. لوحده، هذا الشك يبرهن على عراقتها، ذلك أن العبرية تعود إلى بداية الجنس البشري. وأيا ما يكن، فاللغة العربية هي إحدى اللغات الحية الأشد إيغالا في القدم والأفضل حفاظا على كيانها، إذ ما يزال يُتحدث بها إلى اليوم في صحاري شبه الجزيرة العربية مثلما كان الشأن منذ 5000 سنة. إنها كذلك الأرحب والأوسع انتشارا. هي اللغة الأم للشعوب التي تقطن العربيات الثلاث وسوريا وبلاد الرافدين وكلدا القديمة ومصر والنوبة والصحراء الكبرى وبلاد الجريد ومماليك فاس: تونس وطرابلس وبرقة. بهذه اللغة يسافر المرء في بلدان تركيا والأناضول وأرمينيا وفارس والهند وتتاريا والحبشة وإثيوبيا وسواحل جزر زنجبار والسنغال… في كل الأماكن التي نفذ إليها الدين المحمدي يتخاطب الناس بالعربية أو يفهمونها لأن القرآن يُدرس في وقت مبكر وفي النص العربي ويتلى مرة كل أسبوع في المساجد. ما أعظم المزية التي تتيحها هذه اللغة للمسافر إلى الشرق الباحث عن العلم والمتعة والثروة. ولن تبدو له أبدا اللغات التركية والفارسية والهندية أفيد ولا ربما أمتع منها. العربية هي أغنى لغات الشرق ويصل غناها أبعد حد لدرجة وجود آلاف المترادفات للكلمة الواحدة. هذه اللغة رائعة أيضا بتناغمها ومُوجزيتها وقوتها وجلالها.

لكن دعونا نتسامى إلى اعتبارات أكثر أهمية وذات طبيعة عامة، لنوضح أن التدريس الجدي لهذه اللغة سيساعدنا في التعرف بشكل أفضل على تاريخ وعادات ودين العرب، وأنها ستكون دعامة للاهوتي المنشغل بشرح وفحص الكتابات المقدسة، وأنها على الأخص ثمينة بما تمتلكه من النفائس الأدبية.

إذا كان في مكنة الدارس الهاوي لتاريخ الرومان واليونان، إذا دعت الضرورة، تلافي تعلم لغات هذه الشعوب بالاستعانة في ذلك بترجمات عديدة ووفية، فإن الأمر يختلف لمن يريد النفاذ إلى تاريخ العرب، لأن من بين آلاف المؤلفات التاريخية المحفوظة كمخطوطات في مكتبات أوروبا لا توجد سوى 30 مطبوعة [بالآلة]. فكيف بنا اكتساب فكرة جلية عن تاريخ هذه الشعوب إن لم ننهل مباشرة من هذه المصادر الخصبة؟ صحيح أنها حوليات، لكنها جديرة مع ذلك بالدراسة الجادة. وهي لا تقل أهمية من حوليات الإغريق والرومان؛ إذ تعرض أمام أعيننا وقائع لا تبلى وفضائل جميلة ونوازل عظيمة.

في نهاية القرن التاسع، تقريبا، رأت قبيلة من الجزيرة العربية انبثاق رجل من رحمها، تساوت فيه العبقرية والطموح. محمد [صلعم] يبتغي نيل الدرجات العلى، بتبديد الجهل والظلمات، الشعوذة والضلال، ومحاربة عبادة الديانات الباطلة. هُدد واضطهد وطُورد (…). وفي لحظة تهاوت الأصنام في سائر الجزيرة العربية ليعبد فيها إله واحد. سيواصل قادة مغاوير نشر رسالته الربانية. وبسرعة البرق، وفي أقل من 30 عاما فتحت دمشق وأورشليم وسوريا برمتها ومصر وفارس… ولم تكد تمر 80 سنة على وفاة النبي محمد حتى صار أتباعه سادة شمال إفريقيا بكاملها وإسبانيا، متخطين جبال “البرانس” ومندفعين إلى قلب فرنسا وقد توغلوا في سهول “البورغون” و”البواتو” متوعدين برهة بإحلال راية الإسلام محل صليب المسيح. غير أن مظاهر البذخ والتراخي الناشئة من الثراء الفاحش تسللت مبكرا إلى بلاط بغداد ولم يعد الخلفاء، الذين كانوا من قبل يثيرون الرعب ويهبون بسخاء دماءهم في المعارك، يحكمون إلا من خلال ولاتهم، بعد أن استقدموا لحماية عروشهم جنودا أجانب من التتار. بهذه الطريقة، هدوا بأنفسهم أسس إمبراطوريتهم: خرب العجز والفساد عمل العبقرية والفضيلة… ثم قتل آخر الخلفاء، “المستعصم”، ببشاعة تذكر بلوحة “موت سردنبال”-ستتكرر هذه الكوارث اللافتة للنظر والمليئة بالعبر من غير أن يستوعبها الأمراء. هكذا أيها السادة، كل ما هو بارز في تاريخ الشعوب الأخرى نجده في تاريخ العرب. أي من القادة العسكريين القدامى يتفوق في الشجاعة والعناد على صلاح الدين العظيم؟ وهل فترة حكم “المأمون” تلقي على الأدب إشعاعا أقل من فترة حكم أغسطس أو “ليون العاشر”؟

ثم إن تقاليد العرب ليست أقل شأنا من تاريخهم. ومن المعروف أن تقاليد وعوائد أي شعب تنعكس في لغته كما لو في مرآة وفية. الإنسان العربي صارم مثل اللغة التي يلهج بها. وطيلة 50 قرنا حافظ كليا على أعرافه وتقاليده وتراثه. وخلال هذه الحقبة الزمنية الممتدة ظلت لغته محصنة من أي تأثير أجنبي… لقد شاهد البدوي، الذي عاش حرا بجانب أمم مستعبدة، تعاقب مماليك مصر وسوريا وكلدا، كما لو كانت خيالات. تقدم غزاة قساة بعرباتهم الحربية حتى تخوم الصحراء وبالكاد وصلت إلى مسامعه أسماؤهم، وبالكاد تناهت إليه جلبة سباقات اسكندر المقدوني وسقوط مملكة فارس. وزمن فيما بعد، لما كانت أنباء انتصارات مواطنيه الباهرة تدعوه إلى ترك الرمال الحارقة والآبار الجافة، كان دوما يتصرف بحكمة وصرامة، ويفضل فقره الذي يمنحه الحرية والاستقلالية على العيش في الأقفاص الذهبية… في أيامنا هذه، لما قادت حملة مشهورة الفرنسيين إلى حدود شبه الجزيرة العربية، كان بمستطاع الناظر التعرف بسهولة على ملامح قاطن تلك الربوع كما صورها قدماء الأدباء: محراب، يأخذ بالأثر، شديد البأس، وفي آن معا مضياف وسخي، قنوع وصبور على تحمل ضروب الحرمان قاطبة، لا ينكل أبدا عن اليمين، يعيش مع كافة أفراد عشيرته في ود أخوي. اليوم، كما في زمن إبراهيم [عليه السلام]، يقيم كل رب عائلة العدالة بين ذويه. وبياض الشعر عندهم مقدس والشيوخ هم من يجرون المداولات، بحيث إن كلمة الشيخ في العربية تعني في الآن ذاته الكهل والسيد.

وثمة صفة مميزة لعرب الصحراء نعثر عليها في لغتهم: شغفهم بالخيول. ولهم ألف كلمة مختلفة لتسمية هذا الحيوان حسب سنه ولونه وشكله وعرقه. واسمه دوما على طرف لسانهم، يسكن أبياتهم الشعرية. الحصان عندهم بمثابة الصاحب الأعز، لا يفارقونه، وكنزهم الوحيد. يشاركهم في (…) الحروب ويقودهم نحو النصر السريع مثل الريح ويجنبهم هول الهزيمة.

هكذا فمعرفة اللغة العربية تفيدنا في التعرف على تقاليد الشعب الناطق بها. إنها تمدنا كذلك بمفاهيم أدق عن طبيعة وروح الملة المحمدية وهي موضوع بقدر ما هو بالغ الأهمية بقدر ما درايتنا به ضحلة. ولن نستطيع تصور جميع زوايا الانحراف التي ارتمى فيها العرب فيما يخص الدين: نحل عديدة ومحاجات من كل نوع وعناد في المناظرات والسجالات ومعتقدات واهية وخرافات تافهة وإيمان بالسحرة والمشعوذين وتقديس الأضرحة وبقايا الموتى… لقد عرف الشرق نظائر لما شهده الغرب من الأصوليين، والميثوديين والنساك المعتزلين والرهبان المتسولين، والأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت… فمن من مستمعيَّ لم يتناه إليه الحديث عن الوهابيين، وهي طائفة قوية نشأت في العربية السعيدة منذ 40 عاما وتهدد اليوم باجتياح فارس وتركيا. مؤسسها، وارث عبقرية واسم محمد، جاء ليعيد الإسلام إلى نقائه الأول. رفض التقاليد الإسلامية ومنع زخارف المساجد وأظهر العداء الشديد للأصوليين. 200 ألف محارب يدعمون بسيوفهم مذهب هذا المصلح الذي غير وجه الجزيرة العربية. (…) وإذا كان الهيلينيون، وحفدة ليونيداس الأول، يقاومون اليوم خصومهم بضراوة، فإن قسطا من نجاحاتهم يرجع إلى الرعب الذي يثيره هؤلاء المتعصبون وإلى جيوش الباب العالي العثماني التي تواجه هذا التيار المدمر.

هكذا وبدراستنا دين وتقاليد وتاريخ العرب سنتخلى تدريجيا عن كل الأحكام المسبقة الرائجة في المحادثات، بل في الكتب. غالبا ما نتكلم عن عمرو [بن العاص] العنيف، الخليفة القاسي، المسؤول عن إحراق مكتبة الإسكندرية… بيد أن عمرو كان أميرا لطيفا ومعتدلا وجوادا وكريم السجايا ومحبوبا تماما ممن كانوا يجلونه، والفعل الذي يلام عليه إن كان صحيحا إنما يدل على جهل وتعصب القرن… نتكلم عن معجزات نبي الجزيرة ونجهد أنفسنا في البرهنة على أنها ترهات ومجرد تسامٍ وتفاخر… لكن هذا معناه محاربة وهم عبثي. لم يزعم محمد [صلعم] قط بأن باستطاعته القيام بخوارق ومعجزات، بل كان يعيب الأمر صراحة على من كان يطالبه بذلك. نتكلم عن الشخص ذاته وكأنه أمي لم يعرف القراءة والكتابة. لكن المؤكد أنه ينتمي لأشهر قبائل العرب وكان قام برحلات طويلة إلى البلدان المجاورة ومارس التجارة مع شعوب سوريا المتحضرة واستجوب الكهنة والعلماء واكتسب كل المعارف الممكنة لتلك الفترة. نتكلم عن الضريح المشهور لمحمد [صلعم] في مكة غير أن هذا النبي دفن في المدينة بالذات التي توفي فيها. نتكلم عن الاستبداد الشرقي وكأنه بلا كوابح وبلا حدود لدرجة عدم الاعتراف قط بالقوانين الجنائية أو المدنية، وبأن كل القرارات متروكة لمزاج القضاة والسلطان… لنقرأ سورة النساء في القرآن وسنرى مدى دقة المشرع في تحديد نظام الإرث داخل العائلات وضمان الممتلكات الشخصية ضد شطط الحاكم… لن ننتهي من تعداد لائحة الأحكام المسبقة.

وإذا كانت دراسة العربية مفيدة للعلماء، فإنها إلزامية لعلماء اللاهوت المنشغلين بتفسير وفحص الكتابات المقدسة. العربية والعبرية لغتان شقيقتان ومفردات الواحدة تفسر غالبا بمفردات الأخرى. والعهد القديم (لا أحد ينكر أنه كتب بالعبرية) يتضمن الكثير من التعبيرات ἄπαζ γεγόύενα التي لا تتردد إلا مرة واحدة في الكتاب، وبما أن تلك التعبيرات لا تتكشف دوما بمجموع الجملة، فإننا وجوبا نلجأ إلى اللغة العربية بوصفها تضم تقريبا كافة جذور اللغة العبرية والتأكد ما إن كان المعنى المعروف للكلمة العربية يوافق الكلمة المجهولة في العهد القديم. إن “سفر أيوب” سيظل ملغزا غامضا للمترجم الجاهل بخبايا العربية.

وليست تلك الخدمات الوحيدة التي تسديها اللغة العربية للاهوتي. فنسخة العهد القديم الكلدانبة، التي تحمل اسم “الترجوم”، وهي النسخة القديمة المنصوح بها، مليئة بالعبارات والألفاظ العربية. وتعليقات الحاخامات تنطوي في كل صفحة على إيضاحات مستمدة من اللغة العربية. وأخيرا، ستبقى نسخ العهد القديم العربية معتمة تماما لمن لا يقرأها في صيغها الأصلية.

هذه الاعتبارات اعترضت بقوة اثنين من أشهر المختصين في النصوص المقدسة العبرية في القرن 16م، “عمانوئيل تريميليوس” و”فرانسيسكوس يونيوس”، وهما على أهبة ترجمة العهد القديم، فصمما على دراسة العربية مقتنعين بأنه بدون معرفتها المسبقة سيتوقفان في عملهما عند كل جملة. وأقر العالم المستشرق “رايسكه” بأن امتلاك قاموس للغة العربية يمثل أفضل معين في تفسير الكتاب المقدس (التوراة) من جميع التعاليق الممكنة.

اللغة العربية إذن تتيح توضيح كلمات العهدين القديم والجديد وتسلط بالتالي الضوء بكثافة على الوقائع والأعمال الواردة في هذه النصوص، لأن تقاليد وأخلاق العرب والعبرانيين تتقارب كثيرا. هكذا لن نندهش بعد من رؤية “شمشون الجبار” وهو يقترح بجدية أحجية على المدعوين في وليمة كبيرة (سفر القضاة، 12) حين ندرك أن نفس التقليد ما يزال موجودا في الشرق، وأنه من الصعب توصيف شخص ما بالذكاء العالي إن لم يكن على دراية بحل الألغاز. ولن نستغرب مشهد يوحنا المعمدان وهو يأكل الجراد في الصحراء (إنجيل متى – 3) عندما ندرك أن الجراد ما يزال إلى اليوم يشكل طعاما للبدو العرب. ولن نسْخر بعد مثلما يفعل بعض السذج من اللعب بكلمات يسوع حين يخاطب القديس بطرس: “أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي” (إنجيل متى 16-18) حين نعلم أن في الشرق هذا النوع من اللعب بالكلمات ليس طابع العقول الصغيرة كما هو الشأن عندنا، بل يشكل حلاوة المناقشات ويزيد في رونق الشعر.

بوسعي الإسهاب في تعداد هذه الأمثلة: بوسعي أيضا، حضرات السادة، مواصلة إقناعكم بمكانة اللغة العربية بالتحدث عن عدد الألفاظ التي استعارتها اللغات الحية منها. بوسعي البرهنة بكون نصف كلمات الفارسية والتركية عربية قحة وأن الإسبانية والإيطالية والإغريقية الحديثة بل والفرنسية تحتوي على عدد هائل من الكلمات العربية: لكن ثمة اعتبارات أخرى أهم تلتمس عناية المنصتين إلي.

تضم آداب العرب ذخائر ما يزال جلها مجهولا في ثنايا المخطوطات. مُرٌست ريشاتهم الشعر والتاريخ والروايات. والعرب شعراء ذواقون بالفطرة. وقبل بعثة النبي محمد بقرون، كان لكل قبيلة من قبائلهم شعراء يتنافسون بحدة عمّن يكون الأفضل في نظم القريض. وكان يعقد، كل سنة، تجمع رسمي لسماع المتبارين يتناشدون ويتحاكمون فيما بينهم. وكانت القصيدة المتوجة تعلق على جدران الكعبة ويقام لصاحبها تكريم رائع. وكانت قبيلته وهي فخورة بهذا النصر تخصص، كما في اليونان القديمة، يوما للاحتفال به، وتتقدمه بالمزاهر والدفوف وتزين منزله بأفخم الزخارف وتباركه بصفته المدافع عن نقاء لغته وسلامة أنسابه والمخلد لمآثر بلده.

ونتيجة هذه التحفيزات أنجب العرب في كل الأزمنة شعراء متميزين، إلا أنهم بخلاف الإغريق والرومان لم يقرضوا كل أصناف الشعر. اقتصروا على اللون الغنائي والهجائي والمدح ولم يهذبوا المأساة والكوميديا والملحمة. تتسم قصائدهم الحربية بالسمو وأناشيد حبهم بالحزن وأشعارهم الهجائية بالاكتمال. أما سخريتهم فسوط قارص: ما اجتمع في الريشة اللاذعة والجارحة لكل من “بوالو” و”جان-جاك روسو”.

إن إجراء مقايسة بين شعر العرب وشعر الإغريق ستكون مهمة عسيرة وسيبقى الامتياز دوما للإغريق. في غالب الأحيان، يفتقد الشعراء العرب إلى الطبيعي والبسيط، إلى العفوية: وهي صفة تبلغ أبعد مدى لدى الإغريق-يراكم العرب، في غلو، الصور البلاغية والمقارنات والاستعارات ويحبون الإفراط في التأنق، يهدفون إلى التأثير ويسعون بكل قوة إلى الإبهار المباغت: لا أثر لهذا عند الإغريق وكل شيء لديهم يقترب من الطبيعة الجميلة وكل شيء فيهم تعبير عفوي عن المشاعر وإن استعملوا الصور فلإبراز أجود أفكارهم.

العرب يسرفون في المقارنات المبالغ فيها ويبحثون عن التعبيرات نادرة الاستعمال، يوثرون التركيبات الأشد تعقيدا وتلغيزا واستبهاما على العقل المرهف. أما الإغريق فعلى العكس يتجنبون التضخيم والإطناب والالتباس. إذا كان فهرس أدباء العرب واسعا فمعجم أعلام مؤرخيهم لا يقل اتساعا منه. بيد أن القليل منهم عرف كيف يتجنب المؤاخذات الموضوعية، تقريبا كل مؤلفاتهم التاريخية هي حوليات جافة خالية من الزخرف أو من المحكيات المفخمة، ونسيج من الأقاصيص الرمزية التافهة. هو ذا العيب الطاغي فيها. هكذا هما “ابن عربشاه” وبهاء الدين ابن شداد في سيرتي “صلاح الدين” و”تيمورلنك”، المبنيتين باستمرار على نبرة الإعجاب والحماس المتعبة للقارئ اللبيب الذي يدرك أن كبار الشخصيات لا يخلون من مواطن الضعف. إنهم شعراء أكثر مما هم مؤرخون؛ إذ يعرضون الوقائع الأكثر بساطة على أنها خوارق وينشغلون بكل ما هو عجائبي مما يفقدهم طريق الحقيقة.

إذا كان العرب أقل شأنا من القدامى في التاريخ والشعر، فإنهم الأفضل في جنس الروايات: يتفوقون حتى على المعاصرين. أية أمة تضاهيهم؟ من لم يقرأ أو يعد قراءة “ألف ليلة وليلة” في تلذذ وغبطة؟ وكثير من الحكايات الأخرى الآسرة والمتنوعة التي ترسم صورا حية أكثر دقة لتقاليد الشرق؟ إبان فترة النهضة الأدبية، استقى جميع روائيي أوروبا من هذا الينبوع الفياض بالفكر المرح. لودوفيكو أريوستو وشعراء البروفانس مدينون للقصاصين العرب بالقسط الوافر من نجاحاتهم.

لنترك الآن الأدب ونلقي لمحة خاطفة على ميدان العلوم حيث تلتقي كل الآراء لإعلان مجد وفضل العرب ومنحهم وسام اعتراف أبدي…

في العصر الممتد من القرن التاسع حتى القرن الرابع عشر، حيث كانت أوروبا البربرية تتخبط في الجهل المدقع وكان النبلاء والأمراء فيها بالكاد يعرفون أبجديات الكتابة والنحو، وحيث لم يكن للرهبان، المحرفين للمعارف، من شغل في أديرتهم سوى محو روائع العصور القديمة على المخطوطات واستبدالها بالابتهالات والقداسات، في تلك الفترة من الظلمات الكالحة والغموض المطبق، كانت امبراطورية العرب تسطع بأبهر الأنوار. بفضل تحفيزات وهمة وعطايا الخلفاء المنصور وهارون الرشيد والمامون، ثم تطوير كل الفنون المتحررة والنهوض بجميع فروع الأدب بالمنافسة. أسست أكاديميات شهيرة في بغداد والبصرة والكوفة وفي أماكن أخرى. وعلى ضفاف دجلة، ارتقت إلى العلوم، التي بالكاد كان لا يعرف عنها غير الاسم في أوروبا، إلى أقصى درجات البهاء.

ماذا سأعلمه لمستمعيَّ العلماء بهذا الصدد؟ اخترع العرب الجبر وطوروا علم حساب المثلثات وأدخلوا إلى الغرب الأرقام وعلوم الحساب الهندية. كتبوا في الفلك وألفوا العديد من الكتب حول الانعكاسات والانكسارات والكميات ذات الصلة وصححوا الجداول الفلكية اليونانية، وقاموا بأنفسهم بالعديد من الاكتشافات. في حقل الطب يكفي ذكر ابن سينا، بن سرافيون، الرازي، وابن رشد، والتذكير بأن العرب هم أول من طبق الكيمياء في الطب، وبأنه حتى نهاية القرن 17م، كانت كتب ابن سينا تطبق مثل النبوءات في جامعاتنا. وأما الجغرافية فمدينة لهم بإسهامات لا تنكر. أبو الفداء والإدريسي والمقريزي وجغرافي النوبة… تركوا وصفا لسوريا وللعربية ولإفريقيا الشمالية أكثر دقة مما بمقدورنا رسمه اليوم.

في إسبانيا، أعطى المورسكيون، المولعون بالتاريخ الطبيعي، دفعة جديدة وقوية لفلاحة هذا البلد. وإذا كان العرب لم يبتكروا جديدا في الفلسفة، فإنهم عززوا هذا العلم بحفاظهم من خلال الترجمة على أفضل النظم الفلسفية الإغريقية وانقدوا من الضياع الكثير من نصوص أفلاطون وأرسطو وبابوس السكندري وارخميديس وإكليمندس الإسكندري وابولونيوس البرجي وبعض أعمال الآخرين.

لا يكلون في البحث ولا يرضون بالعيش غرباء عن أية معرفة: كتبوا مقالات قيمة في النحو والأسلوبية والشعرية والخطابة، وضعوا معاجم موسوعية وبيوغرافية، في التاريخ والجغرافية، قواميس لكل العلوم.

وأخيرا، أيها السادة، إن الفنون مدينة لهم بأشهر الاكتشافات: اختراع الورق والبارود والبوصلة. وبمقدوري إثبات هذه الأطروحة لو لم يحن وقت الانتهاء. ومما لا يرقى له أدنى شك أنه يستحيل إحصاء عدد الكتب العلمية والأدبية التي ألفها العرب وتعتبر من بين المعجزات. تضم خزانة الإسكوريال مخطوطات غزيرة، والفهرست لوحده يشمل 4 مجلدات ضخمة، وتختزن مكتبات باريس وفيينا واكسفورد وميلانو ولايْد وروما عددا هائلا من النفائس الثمينة الأخرى التي لا توجد في الاسكوريال. إذن، هذه الحقيقة تثبت أنه بإمكاننا اليوم، عوض الاضطرار وبمشقة إلى التقاط بقايا الحصيد في حقل الأدب اليوناني اللاتيني، البدء/الشروع في الحصاد بقبضة اليد داخل ضيعة الأدب العربية الرحبة

حضرات السادة،

هذا الأدب يستحق منا التشجيع في مدينة كمدينتنا. لهذا الغرض أسس مجلس الدولة النبيل منذ ثلاث سنوات كرسيا أكاديميا خاصا بتعليم اللغة العربية. لكن فيما ستفيد جهودنا البسيطة هذا التدريس إذا كان حكامنا [المحليون] لا يقبلون القيام بعمل لتعزيزها وتوسيعها. فمكتبتنا العمومية تحوي كثيرا من المخطوطات الشرقية المهمة والجديدة، ويلزمنا بغية حث طلابنا على ترجمتها منحهم الوسيلة لنشرها، ولتحقيق هذا المبتغى ينبغي إنشاء مطبعة عربية: إنها الأمنية التي أصوغها في نهاية هذا الخطاب. مؤخرا، أصدرت مطبعتنا العبرية مؤلفات بالغة الأهمية زادت في تألق أكاديمية جنيف. وعليه، فالتوفر على مطبعة عربية سيضيف لا محالة وردة إلى هذا الإكليل… أتوقف هنا… لقد أسهبت في الحديث عن هذه الأمنية التي يتقاسمها جميع أصدقاء اللغات الشرقية.

في وطننا العزيز، وبفضل الحكومة التي نحن بها سعداء (وأدعو الرب أن يحفظنا دائما)، نعلم أن التعبير عن الرغبة في التوفر على مؤسسة نافعة معناه الحصول عليها سلفا.

*ألقي يوم 16 يونيه 1823 –جنيف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى