الأخبارتقارير ودراسات

وثيقة نادرة .. المهدي بنبركة يكشف اختراق “إسرائيل” للقارة الإفريقية

الصدى – هسبريس

وثيقة نادرة .. المهدي بنبركة يكشف اختراق “إسرائيل” للقارة الإفريقية

تقديم:

 

شَكَّل الاختراق الإسرائيلي للقارة الإفريقية جزء من استراتيجية كبرى أَطَّرت تفكير المشروع الصهيوني منذ مرحلة ما قبل إقامة كيانه الاستيطاني في فلسطين المحتلة سنة 1948؛ إذ كانت مستعمرة بريطانية في إفريقيا اسمها أوغندا كانت واحدة من المقترحات التي تمّ تقديمها لإقامة كيان عليها يحمل اسم إسرائيل من طرف أب الحركة الصهيونية “تيودور هيرتزل” حين توجه إلى بريطانيا واقترح على وزير المستعمرات فيها “جوزيف تشامبرلين” إقامة كيان لليهود في شرق إفريقيا، وبالضبط في أوغندا كخيار من الخيارات المطروحة (إلى جانب فلسطين، الأرجنتين…).

 

هذا الخيار فشل بسبب الانقسام الكبير داخل الحركة الصهيونية حول هذا الموضوع. وهو اقتراح كان يستلهم ما كان يعتبره نجاحا للتجارب الاستيطانية التي كانت تعرفها إفريقيا حينئذاك (في شمال القارة مع الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر، وفي جنوب القارة الإفريقية خاصة: في جنوب إفريقيا، روديسيا وناميبيا…).

 

لذا فتحت حركة التحرر العربي والإفريقي والثالثي عيونها على خطورة هذا الاختراق واندماجه في بنية حركة الاستعمار الغربي للقارة والقيام بأدوار وظيفية لتبادل المصالح مع مراكز القرار الرأسمالي الدولي أحيانا، وأداة لها في غالب الأحيان؛ الأمر الذي جعل واحدا من أهم رموز حركة التحرر الصاعدة حينها، وهو الشهيد المهدي بنبركة، يدق ناقوس الخطر في “ندوة فلسطين العالمية” المنعقدة بالقاهرة من 30 مارس إلى 6 أبريل 1965، أي قبل سبعة أشهر بالضبط من اختطافه واغتياله في باريس يوم 29 أكتوبر من السنة نفسها.

 

وهو الاغتيال الذي نجد لإفريقيا علاقة وطيدة به، حيث كانت حركة بنبركة بين عواصمها المستقلة حديثا (انطلاقا من القاهرة والجزائر العاصمة)، وحصوله بوسائله الخاصة، على وثائق للمخابرات الأمريكية متعلقة باستهداف استقلال تلك الدول واستهداف قادة حركة التحرر الإفريقية (مثل “كوامي نكروما” قائد غانا، و”باتريس لومومبا” قائد حركة استقلال الكونغو…)، وتحذيرهم من ذلك، وتنسيقه مع رموز حركة التحرر في إفريقيا مثل أحمد بنبلة، جمال عبد الناصر، لومومبا، نيكروما، موديبوكيتا، سيكوتوري… إضافة إلى تحضيره لمؤتمر القارات الثلاث؛ عوامل جعلت قرار الاغتيال جاهزا في مطابخ عواصم القرار الاستعماري، قبل تنفيذه في باريس ذات ليلة خريفية باردة.

 

تحولت مداخلة المهدي بنبركة في “ندوة فلسطين العالمية” تلك إلى رؤية تتضمن استراتيجية عملية لمواجهة الاختراق الإسرائيلي للقارة السمراء، بعد تشخيص هذا الاختراق ورصد مظاهره وسرد مخاطره على عموم الشعوب الإفريقية ومستقبلها، مما جعل منها وثيقة تأسيسية اعتمدتها حركات التحرر العربي والإفريقي كواحدة من أدبياتها الأساسية.

 

تأتي أهمية الوثيقة إذن في ما تقدمه من تحليل عميق للأوضاع في إفريقيا حينها، وكذا بتزامنها مع شهر أكتوبر الحالي، حيث تقرر إلغاء أول قمة إفريقية –إسرائيلية في تاريخ العلاقات بين الطرفين التي كان من المقرر انعقادها بمدينة “لومي” عاصمة التوغو، بعد اعتراض عدد من الدول الإفريقية والعربية على انعقادها، في استلهام لروح هذه الوثيقة.

 

ومن المفارقات أن المهدي بنبركة يحذر فيها من صناعة نُخبة إفريقية في إسرائيل سيكون لها دور بارز في تسهيل الاختراق، وكانت التوغو من الدول التي يذكرها في وثيقته هاته، إضافة إلى الكثير من الدول الإفريقية، خاصة تلك التي كانت تعاني هشاشة في التكوين والبناء، مما يجعل الاختراق سهلا وسريعا.

 

ورغم نجاح بعض الاختراقات هنا وهناك، فإن الكيان الإسرائيلي ما زال يشعر بصعوبات جمة أمام تنزيل مخططاته في القارة الإفريقية، والدليل على ذلك رفض منظمة الوحدة الإفريقية هذا الأسبوع لطلب إسرائيلي للحصول على صفة عضو مراقب في منظمة الاتحاد الإفريقي الموجود مقرها في أديس أبابا، وهي الصفة التي حصلت عليها 82 دولة من خارج إفريقيا، مقابل ممانعة المنظمة في منحها للكيان الصهيوني.

 

وهي مناسبة تقوم فيها هسبريس بنشر هذه الوثيقة التاريخية بعد التدقيق في بعض معطياتها وشرح بعض المفاهيم وأسماء الأعلام الواردة فيها، بحكم المتغيرات التي عرفتها الأوضاع الجيوــ استراتيجية في القارة الإفريقية بعد أكثر من نصف قرن من صدورها.

 

وفيما يلي الجزء الأول من الوثيقة:

 

أيها الإخوة، رغم الظروف التي يعيشها شعبنا في المغرب حيث تعلمون بالمذابح الوحشية التي تعرض لها طلابنا وجماهيرنا الشعبية، حتى تجاوز عدد القتلى 2500 قتيل، وتجاوز عدد المسجونين الآلاف والمحكوم عليهم جملة إلى اليوم أزيد من ألف {يقصد أحداث 23 مارس 1965}، كل ذلك لم يمنعنا من حضور هذه الندوة لِنُعبر لإخواننا عن تضامننا غير المشروط، التام واللانهائي في المعركة لتحرير فلسطين.

 

وإن الموضوع الذي شرفني الإخوان بأن طلبوا مني تقديمه في هذه الندوة هو “دور إسرائيل في إفريقيا”، أو يمكن أن نسميه بالواقع الإسرائيلي في القارة الإفريقية. فمن واجبنا أن نعرف هذا الواقع، كما أنه من واجبنا أن نعلن رفضنا لهذا الواقع ككل واقع استعماري، لأننا نرفضه كعرب ونرفضه كمناضلين ثوريين؛ نرفضه كعرب لأن دور إسرائيل في إفريقيا هو جزء من مخطط استعماري ضد الثورة العربية، ونرفضه كمناضلين ثوريين لأن دور إسرائيل في إفريقيا هو جزء من الخطة الاستعمارية ضد الحركة التحررية العالمية.

 

إن إسرائيل تعتبر أن دورها في إفريقيا وفي مجموع البلاد المتخلفة دور حيوي. وقد قال “بن غوريون” {أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، وُلد في بولندا باسم “دافيد غرين”} أمام المؤتمر الصهيوني الخامس والعشرين: “إن المستقبل الاقتصادي لإسرائيل ووضعها الدولي يتوقفان على الروابط التي نجتهد في إقامتها مع إفريقيا وآسيا”. وقال “ليفي أشكول” {ثالث رئيس وزراء للكيان الصهيوني، وُلد في أوكرانيا سنة 1895 حين كانت جزء من الامبراطورية الروسية}: “إن مستقبل الأجيال المقبلة في إسرائيل مرتبط بمقدار كبير بنشاطنا في القارة الإفريقية”. ومن الواجب علينا في هذه الندوة أن نواجه هذا الموضوع مواجهة علمية وموضوعية، فنعرف كيف استطاعت إسرائيل أن تلعب دورا في إفريقيا، وكيف نستطيع نحن أن نمنع إسرائيل أن تكون أداة للاستعمار في إفريقيا ضد مطامح الشعب العربي وضد مطامح الشعوب الإفريقية نفسها.

 

1- الاستعداد للمهمة.. الصورة التي ترسمها إسرائيل لنفسها:

 

إن هذه الأداة قد أُعِدّت لتقوم بهذه المهمة، فالاستعمار يصوغ أداته لتقوم بعملها ضد مطامح الشعوب، سواء أكانت هذه الأداة حُكما عميلا أو منظمة مصطنعة، أو حُكما/كيانا دخيلا مثل إسرائيل. وقد حرصت إسرائيل على أن تُكَوِّن من نفسها وتعطي لوجهها صورة تناسب وتُمهد وتُسهل هذه المهمة. فقد أرادت أن تكون بالنسبة للدول المتخلفة، وبالنسبة لدول إفريقيا الفتية بالخصوص، النموذج المثالي الذي يجب أن يُحتذى، والنموذج الذي يجب أن يمنح لهذه الدول الخبرة التي هي في حاجة إليها لمواجهة المشاكل التي تجدها أمامها غداة الاستقلال.

 

فقد قالت “غولدا مايير” {رابع رئيس وزراء للكيان الصهيوني، وُلدت في أوكرانيا باسم غولدا مابوفيتز، وهاجرت إلى أمريكا حيث استقرت لمدة 15 سنة، وبعدها هاجرت إلى فلسطين المحتلة} مثلا أمام البرلمان الإسرائيلي لتبرير سياسة إسرائيل في إفريقيا: “إننا دولة ديمقراطية وصغيرة ليست لها مطامع توسعية، وتتمتع بالخصال التي تلفت نظر الأفارقة. فنحن مثلهم دولة جديدة واجهت وما تزال تواجه مشاكل متشابهة، وقد اكتسبت بعض التجارب الفريدة في مناهج التنمية وفي أساليب الرواد التي قد تفيد هذه الدول”.

 

نعم هذه أسطورة، وسنرى أنها أسطورة، ولكن كان لها مفعول؛ حيث نجد مثلا الرئيس موديبوكيتا {أول رئيس لجمهورية مالي من 1960 إلى 1968}، وهو أحد الزعماء في إفريقيا الثورية، قد انخدع بها. ماذا كان يقول سنة 1958، بسبب اتصالاته الأولى بإسرائيل، وعدم معرفته لحقيقة الوضع في إسرائيل؟!

 

قال موديبوكيتا: “لقد أصبحت إسرائيل قِبلة تَحُج إليها الشعوب الإفريقية لتستلهم منها أسلوب بناء بلادها، وإن إسرائيل غَدَت بحقّ المثال الحي للشكل الإنساني الذي يُبنى على أساسه المجتمع الجديد”. ونستمع إلى أحد الطلبة يتحدث قائلا: “يمكنني إذا ذهبت إلى الولايات المتحدة أن أدرس تاريخ التنمية الاقتصادية، ولكن إذا ذهبت إلى إسرائيل فإنني أستطيع أن أشاهد النمو فعلا”. ونجد الرئيس نيريري {رئيس جمهورية تنزانيا من 1964 إلى 1985}، وهو أحد زعماء إفريقيا التقدمية أيضا، يقول في نوفمبر 1960: “إن إسرائيل بلد صغير ولكنها يمكنها أن تفيد كثيرا بلدا كبلادي، ويمكننا أن نتعلم منها كثيرا، لأن مشاكلنا ومشاكل “تنجانيقا” تشبه مشاكل إسرائيل. ما هي هذه المشاكل؟ إنهما مهمتان رئيسيتان تنتظرنا: بناء الأمة وتغيير وجه الأرض طبيعيا واقتصاديا”.

 

هكذا مهدت إسرائيل لنفسها لتقوم بدورها، وهكذا صِيغت الأداة لتقوم بمهمتها في آسيا، وخاصة في إفريقيا.

 

أ- العوامل الدافعة:

 

إنها من نوعين كما قلنا؛ من جانب خدمة لأهدافها ضد العرب، ومن جانب آخر خدمة للاستعمار الدولي.

 

لقد كان من المهم بالنسبة لإسرائيل بعدما ضُرب عليها الحصار العربي أن تُحطم هذا الحصار، وأن تبحث عن متنفس وعن سوق في آسيا وإفريقيا، وفي نفس الوقت أن تعمل على تطويق البلاد العربية بالمُوالين لوجهة نظر إسرائيل.

 

يقول “بن جوريون” أمام الكنيست في أكتوبر 1960: “إن عطف الأمم القريبة والبعيدة وصداقتها، لهُما العاملان اللذان يُمكِّنانِنا مع الزمن أن نخترق سور الحقد والمقاطعة الذي يحيط بنا”.

 

فإسرائيل أُسِّست في قلب الأمة العربية كقاعدة للاستغلال الاستعماري بالنسبة للبلاد العربية، وبافتقادها لهذه السوق العربية أخذت تبحث عن سوق جديدة أو ما يمكن أن نسميه “رئة جديدة تتنفس منها”.

 

والمهمة الثانية علاوة على هذه الرئة الحيوية، هي أن إسرائيل، ومن ورائها الاستعمار، تريد تجنيد الأصوات في الأمم المتحدة نظرا لأهمية الوزن الدولي الذي أصبحت تُشكله المجموعة الإفريقية والآسيوية، طمعا في الحصول على تأييد أو على الأقل على موقف حياد.

 

وهنا يجب أن نعطي أهمية كبرى للدور الذي تلعبه هذه الدول الإفريقية الجديدة في المنظمات الدولية، سواء كانت هذه المنظمات إفريقية أو الأمم المتحدة نفسها. ففي سنة 1963 مثلا، نجحت إسرائيل بعض الشيء بعد أن عُقد المؤتمر الأول لرؤساء الدول الإفريقية بأديس أبابا، حيث إن هذا المؤتمر المنعقد في مايو 1963، لم يتخذ أي قرار بإدانة إسرائيل. فَرَاحت إسرائيل تعتبر هذا انتصارا لها، وكتبت مجلة الإيكونومست الإسرائيلية في يوليوز 1963 غداة المؤتمر تقول: “إننا لا نغالي إذا قلنا بأن ضغط الرأي العام الإفريقي سوف يلعب دورا حاسما في أية تسوية في الشرق الأوسط، وليس معنى هذا أن مثل هذه التسوية يمكن أن تتحقق في المستقبل القريب، ولكن معنى هذا أن أي سياسي عربي يرغب في أن يلعب دورا فعالا في إفريقيا، له أن يَحسب حسابا يزداد أهمية مع الزمن للمتاعب التي سيتعرض لها مع الأفارقة، إذا ما أثار فكرة الحرب ضد إسرائيل”.

 

وتزيد المجلة قائلة: “ولقد أصبح عدد كبير من الدول الصديقة لإسرائيل من البلاد المسلمة خاصة، مثل السينغال وسيراليون وتشاد، ومن التي تشتمل على نسبة كبيرة ومهمة من المسلمين، مثل تنجانيقا ونيجيريا، هذه الدول أصبحت توالي إسرائيل”. وبذلك تقول هذه المجلة شبه الرسمية في إسرائيل: “أحدثنا ثغرة كبرى جديدة في الجبهة الإسلامية المعادية لإسرائيل التي تَعِب العرب في محاولة خلقها منذ نشوء الدولة اليهودية سنة 1948”.

 

هذا هو الغرض الأول، وهذا العامل الأول أن تقوم إسرائيل بمجهود متواصل لكسب الدول الإفريقية الفتية. وهناك عامل ثان يمكن أن نقول أيضا إنه رئيس، وهو خدمة المصالح الاستعمارية الدولية.

 

وهنا يجب أن أقف وقفة قصيرة لِأُلْفِت نظركم إلى أن الاستعمار قد غَيّر خططه أمام الدفع الثوري الآسيوي والإفريقي والأمريكي –اللاتيني. وعندما وجد نفسه مضطرا للاعتراف بالاستقلال مثلا، وللتنازل أمام هذه الإرادة الثورية بقي حريصا على أن يحتفظ بمصالحه الأساسية الاقتصادية والاستراتيجية، مما يسمى بأساليب الاستعمار الجديد؛ وهو تارة يكون عن طريق الحكومات العميلة وتارة عن طريق اتفاقيات للتعاون المزعوم، وأخرى عن طريق التآمر إذا اقتضى الحال.

 

وكثيرا ما يتساءل الناس، وبالأخص في الرأي العام الدولي، لماذا تتهمون إسرائيل بأنها أداة للاستعمار؟ إنها تقدم خدمات لهذه الدول الإفريقية، إنها تريد أن تتاجر معها، وهي الدولة التي ليست لها مطامع توسعية كما قالت غولدا مايير آنفا.

 

والحقيقة أن اكتشاف الدور العميل للاستعمار بالنسبة لإسرائيل في إفريقيا أمر صعب ودقيق، ولا أدل عليه من تردد الثوريين الأفارقة في اتخاذ موقف صريح قبل السنة الماضية. ولكن لدينا وثائق ولدينا قرائن تثبت هذه الصلة بين دور إسرائيل وبين الخطة الاستعمارية الدولية.

 

لدينا محضر ندوة كان لها مغزى هام، حيث أنها كشفت عن أحد الجوانب لدور إسرائيل في خدمة الاستعمار في إفريقيا. هذه الندوة نشرتها مجلة “لاش”، (وهي مجلة صهيونية تصدر بفرنسا) نظمت في مايو 1962 -غداة اتفاقية إيفيان عند اقتراب إعلان استقلال الجزائر- ندوة بين بعض الشخصيات الفرنسية لتعرف هل هناك تحولا في السياسة الفرنسية تجاه إسرائيل بعد استقلال الجزائر.

 

وكان من بين الموضوعات التي أثيرت، موضوع انضمام إسرائيل للسوق الأوروبية المشتركة وضرورة تأييد فرنسا لهذا الانضمام. وقد حضر هذه الندوة شخصيات بارزة في فرنسا مثل “ريمون آرون” و”دانيل بيير” و”ليو هامو”، وسفير فرنسا في إسرائيل، وأحد الاستعماريين الفرنسيين الذين لهم صلة وثيقة بإسرائيل وهو “رولان بري”، الذي أخذ يدافع عن وجهة نظر إسرائيل في ما يتعلق بدخولها للسوق الأوروبية المشتركة قائلا: “إن مسألة الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة بالنسبة لإسرائيل ذات أهمية قصوى، لا لأنها تتعلق فقط بجانب التبادل التجاري بينها وبين دول السوق، بل لأنها تتصل بموضوع إيلاء إسرائيل اهتماما متزايدا لأنه مرتبط بمستقبلها الاقتصادي، وهو موضوع علاقاتها مع العالم المتخلف بإفريقيا وآسيا”.

 

ولا شك أنه إذا نظرنا إلى الموضوع من وجهة نظر المصالح الاقتصادية البحتة بدول السوق الأوروبية المشتركة، فإنه من العسير أن نجد مستندا لإثبات فائدة الانضمام بالنسبة للمجموعة الأوروبية، ولذلك أرى أن المستند الحقيقي إنما هو من الناحية السياسية.

 

يقول رولان بري: “يجب علينا أن نعتبر إسرائيل تَسَرُّباً للغرب في المناطق التي انصرفت عن الغرب. يجب علينا أن ننظر لإسرائيل كأداة لتغلغل النفوذ الغربي بالنسبة للبلاد المتخلفة في إفريقيا وآسيا”. ولذلك يقول رولان بري: “أعتقد أنه من حقنا أن نطالب بانضمام إسرائيل إلى السوق الأوروبية المشتركة استنادا إلى هذه الحجة بالذات”.

 

من هنا نفهم هذه الفقرة التي وردت في خطاب الرئيس أحمد بنبَلة في مؤتمر الدول الإفريقية المنعقد بالقاهرة عاصمة الجمهورية العربية المتحدة (يوليو 1964)، عندما قال: “إن إسرائيل تحل محل الإمبريالية في كل مكان ترحل عنه، فَتُقْرِض رؤوس أموالها وبالأحرى رؤوس أموال البنوك الأوروبية، والفنيين الذين دُربوا في مصانعها ومعاملها برؤوس أموال أوروبية، وأينما اضطرت الإمبريالية إلى التخلي عن مكانها تأتي إسرائيل لِتَعْرض خدماتها”. وحينئذ نرى أن هذه الأداة التي هي إسرائيل، هي في خدمة أغراض استعمارية محلية بالنسبة للثورة العربية، ولأغراض دولية بالنسبة للاستعمار عامة، وهي تشارك مع هذا الاستعمار في عمليات النهب الاستعماري لثروات إفريقيا إذا نظرنا إلى شكل التجارة التي بينها وبين هذه البلدان.

 

وأمام هذه الأداة التي صيغت للقيام بهذه المهمة، هناك أيضا شروط وُفرت لهذه الأداة حتى تقوم بمهمتها. ذلك أن الاستعمار يواجه الموضوعات بجدية، ومن هنا أيضا يلزمنا نحن من الوجهة النظرية الثورية أن نوجه أيضا معركتنا ضد الاستعمار بنفس الجدية.

 

ب- توفير شروط النجاح:

 

هذه الأداة أرادت أن تلعب دورها بجدية، فبدأت تصور نفسها كنموذج مثالي للتنمية، كما أخذت تَدرس المشاكل الإفريقية بِجِد حتى تواجهها وتواجه الجانب الفني من عملها بكفاءة، ومن وراء الجانب الفني الخدمة الاستعمارية.

 

بدأت إسرائيل تقدم نفسها بالنسبة للدول الإفريقية كالنموذج المثالي، يقول بن جوريون في نشرة لوزارة الخارجية: “لقد خَلَقت دولتنا نوعا جديدا من المجتمعات يلائم بصفة خاصة البلاد الفتية. وهذا النوع يقوم على أسس التساند المتبادل والتعاون الحر. وقد اهتدينا بفضله إلى نظرة جديدة للعمل تضمن للعامل التقدم والرفاهية. ويقوم هذا النوع من المجتمعات على جيش لا يستطيع أن يسهر على الأمن القومي فحسب، بل ويكون كذلك أحد العوامل الرئيسية لانصهار فئات المجتمع”.

 

هذه هي المشاكل التي تنتظر إفريقيا إجابة عنها: كيف يُبنى المجتمع الجديد؟ وكيف تُصهر الفئات المختلفة لهذا المجتمع؟ وجاءت إسرائيل بالجواب على هذه الأسئلة.

 

وهناك أيضا مسائل اقتصادية علمية تواجهها إفريقيا، وجاءت إسرائيل أيضا ببعض الإجابات على هذه الأسئلة؛ فهناك أخصائيون درسوا المشاكل الفلاحية التي تناسب المجتمع الإفريقي، وهناك تجربة للتنظيم الفلاحي أخذ يقدمها الإسرائيليون بالنسبة لإفريقيا للتنمية في الميدان القروي، وهي نماذج ” “KibbotzimوMochavim“”، وبدأ تطبيقها فعلا في بعض الجهات في آسيا وإفريقيا؛ في برمانيا {هي جمهورية بورما أو ميانمار الحالية} وفي نيجيريا.

 

ثم هناك مشاكل خاصة بالبلاد القاحلة أخذت تدرسها إسرائيل وتجرب أنواع النباتات الصالحة في البلاد الصحراوية بالنقب. ودرست كذلك أنواع الري التي تحتاج إليها البلاد الإفريقية، وأنواع الأمراض المتشابهة، فاختص بعض العلماء الإسرائيليين في الأمراض التي تخص البلاد الحارة.

 

ثم أَوْلَت إسرائيل اهتماما خاصا بأنظمة الشباب مُحاوِلةً تعميمها على البلاد الإفريقية. وأهم من هذا، كَوَّنت إسرائيل خبراء يمتازون بعقلية الرواد، وهؤلاء الخبراء هم الذين يُرسَلون إلى إفريقيا للقيام بمهماتهم. يقول “برنار رايخ”، أحد كبار الصحافيين، وقد زار إفريقيا وشاهد دور الخبراء الإسرائيليين فيها: “بينما الفنيون الأوروبيون والأمريكيون يتطلبون المكاتب المكيفة ولا يظهرون إلا ببذلات أنيقة وبقمصانهم البيض وهم يدربون الفلاحين الأفارقة على وسائل تنمية الإنتاج، نجد الخبير الإسرائيلي في أغلب الأحيان وسط الحقول مع الفلاحين لابِساً الشورت الكاكي والقميص المفتوحة قصيرة الأكمام”.

 

تلك هي الأداة التي هيأتها إسرائيل لتقوم بمهمتها في إفريقيا.

 

2- أنواع المساعدات والنشاطات في إفريقيا:

 

هذه المهمة لها جانب فني مهم كما قلنا؛ إن جانبها الاستعماري خفي، نجده مثلا في التكوين والتدريب في قلب إسرائيل، نجده في البعثات الفنية التي ترسل إلى إسرائيل، نجده في الشركات التي تتعاقد فيها إسرائيل مع المؤسسات الاقتصادية المحلية.

 

أ- تفيد الإحصائيات الرسمية مثلا أن عدد الخبراء الذين أرسلتهم إسرائيل للبلاد النامية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، من 1958 إلى 1963، وصل 1502 خبير، منهم 908 لإفريقيا وحدها. وفي سنة 1963 وحدها 544 خبيرا لـ 58 دولة نامية، منهم 464 خبيرا لـ 30 دولة إفريقية.

 

وبلغ عدد الطلبة الذين يأخذون المنح من إسرائيل للتدريب في مجموع السنوات، من 1958 إلى 1963، حوالي 6165 طالبا، منهم 3431 من إفريقيا وحدها، وكان عدد الطلاب الأفارقة الممنوحين سنة 1963 في إسرائيل 1231 طالبا إفريقيا من 36 دولة.

 

بعض هؤلاء الطلبة يدرسون في إسرائيل في المعهد العبري بالقدس، باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مع قسط أساسي من العبرية. وقد خُصص مثلا جناح طبي للأفارقة يصل عددهم مثلا 20 في كل سنة، وتستمر الدراسة مدة 6 سنوات. وبعض هؤلاء الطلبة المبعوثين يحصلون على منح دولية مثل منحة “منظمة الصحة العالمية”.

 

هناك طلبة في المعهد البيطري، وبعضهم في مركز الطاقة النووية، و”معهد التقنيون” بحيفا للكهرباء والفلاحة، وهناك المعهد الآسيوي الإفريقي للتدريب النقابي، وهذا المعهد يجب أن نقول عنه كلمة، لأنه يلعب دورا مهما بالنسبة لإفريقيا، فهو معهد أسسته المنظمة النقابية الإسرائيلية “الهستدروت” بمساعدة من النقابة الأمريكية، هذه النقابة التي دفعت في السنة الأولى 180 ألف دولار لهذا المعهد، وقد حضر الدورة الأولى 60 وفدا من نقابات: داهومي {جمهورية بِنين حاليا}، الحبشة {جمهورية إثيوبيا حاليا}، غانا، ساحل العاج، كينيا، ليبيريا، نيجيريا، روديسيا {الاسم الاستعماري لجمهورية زيمبابوي حاليا حتى سقوط نظام الفصل العنصري فيها سنة 1980}، السنغال، مالي، تشاد، غينيا. ووصلت الدورات حتى الآن إلى 10 دورات.

 

نعم، بعض الدول التي كانت ممثلة في الماضي لم تعد ممثلة، في 1962 مثلا نجد فقط نقابات أنغولا، الكاميرون، إفريقيا الوسطى، موريشيوس، النيجر، رواندا، السينغال والتشاد.

 

ثم هناك نوع آخر من الدراسات وهي المؤتمرات: مثلا المؤتمر العالمي الذي عقد في غشت 1961 بمدينة “روحوفوت” {توجد على بُعد 35 كلم جنوب تل أبيب في فلسطين المحتلة وتضم “معهد وايزمان للعلوم”}، وكان موضوعه “العلم في خدمة الدول النامية”، حضره عشرون وفدا من إفريقيا وآسيا.

 

من إفريقيا حضرت الكونغو-ليوبولدفيل {الاسم الاستعماري البلجيكي للكونغو الديموقراطية حاليا}، سيراليون، الكونغو (برازافيل) وتوغو. وعقدت ندوة علمية أخرى في غشت 1963، حول “التخطيط القروي”. كما عُقدت ندوة لكبار موظفي إفريقيا من 20 ديسمبر 1960 إلى 26 أبريل 1961، حضرها 26 مندوبا من إفريقيا؛ 16 من الكونغو (ليوبولدفيل) وحدها.

 

وعقدت ندوة لنساء إفريقيا تحت عنوان “دور المرأة في المجتمع النامي”، دامت ستة أسابيع، وحضرتها 63 امرأة من الكاميرون، الكونغو، داهومي، إثيوبيا، الغابون، ساحل العاج، كينيا، ليبيريا، مدغشقر، نيجيريا، تنجانيقا {جمهورية تنزانيا حاليا}، السينغال، سيراليون، أوغندا، فولتا العليا {الاسم الاستعماري لجمهورية بوركينافاسو حاليا الذي قام الرئيس الشهيد “توماس سانكارا” بتغييره بعد سنة من وصوله إلى السلطة في 4 غشت 1984}.

 

وأخيرا في مارس 1965، أي منذ أسبوعين، عُقد مؤتمر دولي خاص بالحياة التعاونية حضره خبراء حتى من أوروبا الشرقية (10 خبراء) و8 من أوروبا وأمريكا، و6 من كل من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حول “دور المؤسسات التعاونية في التنمية القروية”.

 

ب- هناك جانب ثانٍ هو البعثات؛ هذه البعثات تشتغل إما بالشؤون الفلاحية أو بمحاربة الأمراض أو بالتخطيط القروي، أو بتنظيم المواصلات وأيضا بالقوات المسلحة. ونسيت أن أقول لكم إن من جملة التدريبات التي نُظمت في إسرائيل تدريبات خاصة بتنظيم الشباب وبتدريب رجال المظلات في الكونغو مثلا.

 

ج- أما النوع الثالث من النشاط الإسرائيلي في إفريقيا، فهو المساعدة الاقتصادية، إما على شكل شركات وإما على شكل قروض، وهذا قليل. ابتدأت إسرائيل بدفع أول قرض لجمهورية غانا سنة 1956، لأن غانا كانت هي المركز الأول لإسرائيل، وانتهى دورها الآن فيه، وكان القرض الأول قد بلغ 20 مليون دولار.

 

ولكن الخطة التي تَتبعها إسرائيل في الميدان الاقتصادي هي علاوة على الخبراء وعلى التدريب، تكوين شركات مختلطة بين الدولة الحاكمة أو بين مؤسسات خاصة فيها وبين شركات إسرائيلية، أهمها: شركة “صوليل بونيه” Solel Boneh)) التي هي من مؤسسات “الهستدروت”، والتي تمولها بعض المؤسسات الاستثمارية الأمريكية.

 

هذه الشركات تُؤسَّس على أن يكون 60% من الأسهم من رأس مال الدولة الإفريقية و40% من “صوليل بونيه”. ولكن هذا أسلوب يفهمه الرأسماليون، وهو أسلوب يترك الأغلبية الصورية للدولة، وفي الحقيقة يبقى عنصر أساسي هو التجهيز والخدمات، وهذه تقوم بها الشركة ذات النسبة الأقل. وقد بلغ رواج “صوليل بونيه” في إفريقيا سنة 1960 أكثر من 16 مليون دولار.

 

والمشاريع التي تقوم بها هذه الشركات تنتشر في إفريقيا ولها ميادين مختلفة؛ مثلا في نيجيريا تقوم ببناء طرق، مباني المصانع، فنادق، مدارس، مباني حكومية، حي طلابي ومركز كهربائي. في سيراليون: برلمان، مباني حكومية، مطار وبنك. في ساحل العاج: مباني عمومية، محطة إذاعة وتلفزيون، مختبرات. في الحبشة: بناء طرق، مطار، مَجارٍ. في تانجنيقا: بناء فندق كليمانجارو، وفي جيبوتي: مخازن في المرسى والمطار…

 

المصدر:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى