افتتاحية الصدىالأخبارمقالات و تحليلات

أخيرا .. “كرة محاربة الفساد” في مرمى العدالة ؟ / محمد عبد الرحمن المجتبى

محمد عبد الرحمن المجتبى /رئيس التحرير

يتوقع المراقبون للمشهد السياسي الوطني أن تستقبل العدالة الموريتانية هذه الأيام ضيوفا من العيار”الثقيل” ، يمثلون في ضيافتها لأول مرة في تاريخ البلاد بهذا المستوى من الوزن السياسي والجرم الإقتصادي حسب التهم التي تحدث عنها تقرير لجنة التحقيق البرلمانية وعمقتها شرطة الجرائم الإقتصادية من خلال محاضر بحثها الإبتدائي التي استغرق إنجازها شهورا من العمل المضني ليلا ونهارا تخللتها ساعات طويلة من الإستماع للمتهمين حول التهم والجرائم التي يحتمل أنهم اقترفوها خلال فترة تسييرهم للشأن العام

في طليعة القوم “ملهمهم ومطعهم من جوع” الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز وبعض كبار مساعديه من رؤساء الحكومات والوزراء والمدراء

أكيد أن العدالة الموريتانية مثل أمامها الكثير من الشخصيات السياسية بما فيهم رؤساء سابقين للبلاد كالرئيس محمد خونا ولد هيدالة مثلا ، لكن كل تلك المحاكمات كانت ذات طابع سياسي ، وفي إطار لعبة كسر ذراع بين النظام والأطياف السياسية في البلاد لا أكثر و لا أقل ، لكن عندما يمثل رئيس سا(ب – ر)ق  أمام العدالة متهما بسرقة المليارات من موارد الدولة ومن خبز ورغيف هذا الشعب المطحون ، ومعه جوقة ممن أكلوا الاخضر واليابس بدون وازع أخلاقي فإن الأمر يبعث على الاشمئزاز وخيبة الأمل في نخب سياسية تمارس الحكم وهي تسرق قوت المواطنين ، وكأنها تعلن حربا على الوطن والمواطن لانهاكهما ، وتحويل البلد إلى بلد فاشل يقتات على صدقات الآخرين  وتبرعاتهم ، هكذا أرادو لبلادنا الغنية ذات الشعب الفقير أن تظل متصدرة لقائمة الدول المتسكعة على أرصفة وموائد العالم ، بدلا من أن تتصدر قائمة الدول المصدرة للأسماك والمنتجات الزراعية والحديد والنفط والغاز والذهب والنحاس ، وغيرها من الموارد الطبيعية الزاخرة والموارد البشرية المعطلة والمشلولة ظلما وإهمالا وتفقيرا وتشريدا في مدائن العالم بحثا عن لقمة عيش كريمة ، و”نأيا عن أذى” عصابات تنهب خيرات الوطن وتذل نخبه بالظلم والتجاهل.

لكن سؤال الأسئلة اليوم هو هل عدالتنا جاهزة لمحاكمة القرن؟ محاكمة تحتاج لجاهزية كبيرة على شتى المستويات المهنية والقانونية والاخلاقية ، هناك حديث قديم جديد حول فساد العدالة الموريتانية وعن قصورها وتقصيرها ، و عن انتشار الرشوة والمسلكيات الخطيرة المضرة بسمعة القضاء والدولة ، وهناك عوامل موضوعية لانتشار مثل هذه المسلكيات لدى بعض ضعاف النفوس حين نعلم أن الدولة لا تنظر للقضاء بما يليق به من قدسية ولا تتيح له من وسائل الترفع عن الشبهات ما يكفي ، وأخطر من كل ذلك رغم كل النواقص المادية واللوجستية التي يعاني منها القضاء الموريتاني ، تسلط الدولة سيفها السياسي على رقاب القضاة وتتدخل لهم في أحكامهم القضائية، بل تمليها عليهم نصا وهذه حقيقة لا غبار عليها ، وقد تسببت في معاقبة كل قاض لا يرضخ لها و يرفض الإنصياع  لها ، وهذا في الحقيقة خطير جدا و لا يبشر بخير كبير ، بل يبعث على القلق والريبة كلما كانت هناك ملفات كبرى حساسة معروضة أمام القضاء ، لأن القاضي يجد نفسه  محاصرا بإملاءات الضمير والنزاهة والخوف من حجز مقعد فاخر أو فاجر في جهنم ، من جهة ومن جهة أخرى تحاصره إكراهات الواقع والوقائع المتمثلة في نقص الموارد وإكرهات الضغوط المادية والاجتماعية ، وقبل هذا وبعده الضغط الرسمي أو الإملاء الرسمي المباشر من الحكومة حيث سيعلب له حكم قضائي جاهز ، عليه فقط النطق به أمام المتهمين لكي يحافظ على وظيفته التي لا تسمن ولا تغني من جوع

هذه وقائع مشينة وحقيقية تسود قطاع العدالة في بلادنا ، وهي تبعث على التوجس من تعاطي العدالة مع ملف الفساد الجديد الذي يتطلب عدالة نزيهة على مستوى لائقا من الجاهزية التقنية من حيث الترسانة القانونية واستنطاق النصوص واسقاطها ، ومن الجاهزية الاخلاقية أيضا

ولا شك أنه رغم تلك الصورة القاتمة هناك صور رائعة يرسمها بعض القضاة تشرف وتبعث على الإطمئنان ، خاصة في هذه اللحظة التي تؤكد فيها السلطة التنفيذية على مضيها قدما في مبدإ الفصل بين السلطات ، وأكدت تجربة التحقيق البرلماني ذلك حيث لم يسجل أي تدخل للدولة في مسار التحقيق ، ولا شك أن الدولة بقرار مثل هذا تمنح فرصة تاريخية لقضاة موريتانيا بأن يرسموا صورة زاهية تمسح السجل الأسود لتاريخ القضاء تحت إكراهات الأنظمة السابقة

الكرة اليوم في مرمى العدالة وهي تحاكم هذا الحجم من رجالات الدولة ممن لديهم موارد مالية ضخمة تكاد تضاهي موارد الدولة حسب البعض ، والأكيد أنه تحد كبير وخطير ولكن ثقتنا كبيرة أن هذه المحاكمة التاريخية ستدشن صفحة زاهية جديدة من تاريخ العدالة الموريتانية العصية على الإملاءات والإكراهات  ، عدالة يحترمها الجميع وتنصف الجميع وتحق الحق وتزهق الباطل ، عدالة تعيد تصنيف الشخصيات وتعيد ترتيب الألقاب والمسميات حيث يصبح الرئيس السابق في حالة الإدانة رئيس “سارق” عدالة لا يظلم عندها ضعيف و لايتجبر أمامها ظالم

حفظ الله البلاد والعباد

المصدر: زاوية (قلم رشاش في صحيفة الصدى الورقية الاسبوعية الصادرة بتاريخ 25يناير 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى