الأخبارالصدى الثقافي

أ. د. جمال سند السويدي : لوفر أبوظبي .. بداية حركة تنوير عربية جديدة تنقل مركز الثقل الثقافي العربي لمنطقة الخليج

الصدى – متابعات

الدكتور جمال سند السويدي مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية

يدفعني افتتاح متحف اللوفر – أبوظبي، كأول فرع لهذا المتحف العالمي العريق خارج فرنسا، بحضور سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، وفخامة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى الحديث بشكل مباشر عن انتقال مركز الثقل الثقافي العربي إلى منطقة الخليج العربي، وهي فكرة اقترب منها بعض الكُتّاب خلال الفترة الماضية بتحفظ وعلى استحياء، فيما تناولها بعضهم الآخر في إطار جدلي – صراعي يخرجها من إطار النقاش العلمي الرصين، لكنني سوف أتعرض لها، في هذا المقال، من منظور مختلف ومنطق مغاير، فليس منطلقي المباهاة أو الانزلاق إلى دائرة الصراعات الفكرية العربية التقليدية العقيمة، حول من يمتلك الريادة والقيادة والزعامة وغيرها، وإنما منطلقي هو: كيف يمكن تجيير هذا الحراك الثقافي المتميز الذي تعيشه منطقة الخليج العربي، لمصلحة المنطقة العربية كلها، بما يعزز حضورها على الساحة الدولية، ويخدم مصالحها ومصالح شعوبها، في إطار من التكامل بين مناطق العالم العربي المختلفة، وليس التنافس أو الصراع أو المجادلة؟.

 

حينما كان مركز الثقل الثقافي العربي في منطقة بلاد الشام، أضاء بنوره كل المنطقة العربية، وعندما انتقل إلى شمال إفريقيا، وصل إشعاعه إلى كل ركن من أركان العالم العربي، والعرب كلهم مدينون لهذه المراكز الثقافية في صوغ الوجدان الثقافي العربي وتشكيل ملامحه على مدى سنوات طويلة. والآن، ينتقل مركز الثقل الثقافي إلى منطقة الخليج العربي، بفعل عوامل عدة، سوف آتي عليها في جزء قادم من هذا المقال، وهذا ليس معناه بالطبع، غياب النمو الثقافي في المناطق العربية الأخرى، وإنما معناه أن منطقة الخليج العربي، هي الأكثر اهتماماً بالثقافة ورعاية لها وإنفاقاً عليها وجذباً لأربابها وروادها وصانعيها، في كل فروعها من دون استثناء، خلال هذه المرحلة من التاريخ العربي الحديث، وأنها، أي منطقة الخليج العربي، هي مركز الإشعاع الثقافي والفكري في المنطقة العربية. كما أن هذا ليس معناه إضاعة الوقت والجهد في التعبير عن الفخر والترفع والاعتزاز بالذات، أو محاولة فرض الوصاية الثقافية على الآخرين والاستغراق في عقدة التفوق الثقافي تجاههم، لأن هذا ذاته هو أول الطريق نحو التراجع، وأحد أخطر مصادر الصراع والتشاحن والاحتقان بين العرب، كما تدلنا على ذلك تجربة العقود الماضية في العالم العربي. فما يهم ليس من يتفوق على من، ومن تقدم إلى الأمام ومن تراجع إلى الخلف، أو معرفة من هو صاحب الريادة والزعامة في المجال الثقافي أو غير ذلك، ولكن المهم هو كيف يمكن استثمار أي تقدم أو تطور إيجابي في أي مجال، ثقافياً كان أو سياسياً أو علمياً أو اقتصادياً، وفي أي بقعة عربية لمصلحة العالم العربي كله.

 

حقائق خليجية

وضمن هذا السياق، لا أظن أن القول إن منطقة الخليج العربي قد غدت هي مركز الثقل الثقافي والحضاري في العالم العربي، ما يزال محل جدل أو اختلاف، فهذه حقيقة لا يحتاج الباحث أو المراقب فضلاً عن المواطن العادي، إلى الكثير من الجهد لاكتشافها والتعرف إليها، وإذا أردت أن أعدد بعض المظاهر البارزة لهذا الثقل الثقافي والحضاري الذي أتحدث عنه، فيكفي أن أشير إلى أن أكبر جائزة عربية للكتاب من حيث عدد المشاركين فيها والقيمة المالية لها، هي جائزة خليجية، وهي جائزة الشيخ زايد للكتاب، في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأول مدينة حرة للنشر على مستوى العالم هي «مدينة الشارقة للنشر» التي تم افتتاحها في 30 أكتوبر 2017 في إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، وأهم القنوات الفضائية العربية موجودة في دول خليجية، وأهم الجامعات العربية التي تظهر أسماؤها في التصنيفات العالمية حول أفضل الجامعات في العالم، هي جامعات خليجية، وأهم مشروعات الترجمة إلى اللغة العربية، يتم تبنيها في المنطقة وفي مقدمتها مشروع «كلمة» للترجمة في دولة الإمارات العربية المتحدة، الذي يرعاه سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، وأبرز الصحف العربية على الساحة الدولية هي صحف خليجية، وأهم جوائز الصحافة والرواية والشعر، هي جوائز خليجية. يُضاف إلى ذلك العدد الكبير من مراكز الدراسات والبحوث الخليجية الرائدة وذات السمعة العالمية الطيبة، وفروع الجامعات العالمية الكبرى الموجودة في المنطقة، وفي مقدمتها جامعة السوربون وجامعة نيويورك والجامعة الأميركية، وغيرها من الجامعات العالمية الأخرى، وقد غدت الفعاليات الثقافية في المنطقة تجتذب كبار الكتاب والمفكرين والإعلاميين والفنانين في العالم كله، وتوجد في المنطقة مكاتب كبرى محطات التليفزيون والراديو في العالم، نظراً لما يتوفر فيها من بنية تحتية متقدمة على مستوى الاتصالات، ودورها المحوري والمؤثر في صناعة القرار العربي. كما انخرطت دول المنطقة في نشاطات ثقافية لم تكن تهتم بها من قبل، مثل: الإنتاج السينمائي وإقامة مهرجانات السينما بشكل دوري، وإنشاء دور للأوبرا (الإمارات مثال لذلك)، والإنتاج الفني والسينمائي، وخاصة مع توافر البنية التحتية اللازمة لذلك، حتى إن الكثير من البرامج والأعمال الفنية العربية الشهيرة يتم تصويرها في المنطقة، بل إن اللهجة الخليجية التي اعتبرها الكثيرون في الماضي حاجزاً أمام تمدد الثقافة والفن والأدب الخليجي خارج إطاره الوطني الضيق، لم تعد كذلك في ظل الإقبال المتزايد من الفنانين والفنانات العرب للغناء باللهجة الخليجية، وانتشار المسلسلات والمسرحيات الخليجية، من خلال القنوات الفضائية الخليجية التي غدت تصل إلى كل بيت عربي من المحيط إلى الخليج، فضلاً عن الأغنية الخليجية التي اتسعت شعبيتها في العالم العربي بشكل ملحوظ. يُضاف إلى ذلك التطور الملحوظ في الفن التشكيلي الخليجي والزيادة الكبيرة في معارض الكتب الخليجية ذات السمعة العالمية بما يتوفر لها من إمكانات ضخمة وبنية تحتية متميزة ودعم على مستوى القيادات السياسية، ما يجعلها تستقطب كبرى دور النشر والكتاب والمفكرين من المنطقة العربية والعالم. وبعد سنوات من غياب الخليج أو حضوره الخافت في مجال الفكر والتأليف والكتابة الأدبية والصحافية والسياسية على الساحة العربية، تغير الوضع، حيث غدا الكتاب والمفكرون والأدباء والشعراء والروائيون الخليجيون، لهم حضورهم الملحوظ على ساحة الثقافة والفكر في العالم العربي، وخارجه.

رؤى المستقبل

 

وإذا أردت أن أسترسل في تعداد المظاهر فسوف يمكنني أن أضيف – كذلك – أن مشروع الفضاء العربي الأول هو مشروع خليجي «إماراتي»، وأول منطقة عربية تتجه بجدية نحو الطاقة النووية للأغراض السلمية وإنتاج الطاقة المتجددة، هي منطقة الخليج العربي، وكذلك فإن المنطقة هي الأكثر اهتماماً بالاستعداد لمرحلة «الثورة الصناعية الرابعة» من بين المناطق العربية الأخرى، وهي الأكثر حرصاً على استشراف المستقبل والاستعداد لتغيراته وتطوراته على المستويات كافة. فضلاً عن أنها غدت منبعاً لأفكار التغيير والتجديد الكبرى والشجاعة على المستويات المختلفة. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد وإنما تقع الثقافة في صلب الرؤى والخطط المستقبلية للكثير من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، سواء إذا تكلمنا عن «رؤية الإمارات 2021» أو «رؤية السعودية 2030»، أو «رؤية الكويت 2035» أو «رؤية مملكة البحرين الاقتصادية حتى عام 2030»، وغيرها، حيث إن كل هذه الخطط والرؤى المستقبلية تعتبر أن الثقافة جزء أساسي من التنمية الشاملة والمستدامة، ومن ثم تستثمر فيها وتهتم بها وتضعها ضمن أهم أولوياتها التنموية. وتتمتع دولة الإمارات العربية المتحدة، بقصب السبق في كل ما ذكرناه. ولعل ما يزيد أهمية هذه النهضة الثقافية في منطقة الخليج العربي، أنها تتلازم مع اتساع مجال التأثير السياسي للمنطقة في مجريات الأحداث العربية والإقليمية والدولية من ناحية، وتحولها إلى المركز الاقتصادي والتجاري والمالي الرئيسي في العالم العربي من ناحية أخرى، بحيث يمكن القول: إن العلاقة وثيقة بين قوة السياسة والاقتصاد في المنطقة من ناحية، وقوة الثقافة من ناحية أخرى، لأن حالة الثقافة في أي مجتمع هي – في أحد جوانبها المهمة – انعكاس لحال السياسة ووضع الاقتصاد فيه، من حيث القوة أو الضعف. ولا شك في أن منطقة الخليج العربي هي مركز الثقل الاقتصادي والتنموي في المنطقة العربية، خلال المرحلة الحالية من تاريخ المنطقة، سواء من حيث معدلات النمو أو الناتج المحلي الإجمالي أو نصيب الفرد من الدخل الوطني أو مستوى التنمية البشرية أو الخطط التنموية الكبرى والطموحة أو حركة التجارة الخارجية، وغيرها.

 

أسباب التحوّل

 

لماذا حدث هذا التحول، بحيث أصبحت منطقة الخليج العربي، التي كان ينظر إليها على مدى سنوات طويلة باعتبارها منطقة «طرفية» في العالم العربي، على مستوى الجغرافيا وعلى مستوى الفكر والسياسة والثقافة أيضاً، إلى مركز للثقافة العربية؟

 

الأسباب لهذا التحول كثيرة ومتداخلة، أولها، رعاية القيادات السياسية في المنطقة للثقافة واهتمامها بها، سواء على المستوى التنموي الداخلي أو في العلاقات الخارجية، ومن ثم أصبحت الثقافة حاضرة بقوة في خطط التنمية، وما يستدعيه ذلك من توفير المخصصات المالية للنهوض بها، والعمل على بناء الكوادر الثقافية الخليجية وإعدادها. في الوقت الذي تأثرت فيه الثقافة سلبياً في المراكز الثقافية العربية التقليدية بفعل عاملين أساسيين: العامل الأول، هو انهيار المشروعات السياسية العربية الكبرى، وأهمها مشروعا القومية والاشتراكية، ومن ثم حدث تراجع أو انهيار لما كان يلازم هذه المشروعات من ظهير ثقافي كبير يدعمها ويؤسس لها على المستوى الفكري والثقافي والفني والشعبي، أي إنه في الوقت الذي تدعم فيه القيادة السياسية الثقافة في منطقة الخليج العربي، فإن هذا الدعم تراجع في الدول العربية الأخرى، بسبب انهيار المشروعات السياسية الكبرى التي كانت الثقافة جزءاً أساسياً فيها. العامل الثاني، هو الضغط السلبي الذي تعرضت له الثقافة بفعل نمو التيارات الدينية المتطرفة، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، وما تحمله من أفكار ضد الانفتاح وحرية التفكير والإبداع والفن وغير ذلك، ما انعكس بالسلب على حالة الثقافة والفن والفكر في هذه الدول.

السبب الثاني الذي يقف وراء تحول مركز الثقل الثقافي إلى منطقة الخليج العربي، هو الاستقرار الذي تعيشه هذه المنطقة لسنوات طويلة، مقارنة بالاضطرابات والفوضى والحروب التي شهدتها المراكز الثقافية التقليدية في بلاد الشام وشمال إفريقيا، ونالت من حضورها الثقافي على مستوى الإنتاج والحركة والتأثير خارج الحدود، حيث أدى هذا الاستقرار إلى تحول منطقة الخليج العربي إلى منطقة جذب ثقافي للمفكرين والكتاب والمثقفين العرب وغير العرب، وتشجيع المؤسسات الإعلامية والثقافية الكبرى في العالم على العمل فيها وإقامة مكاتب لها بها.

 

السبب الثالث، هو ما شهدته المجتمعات الخليجية من انتشار كبير للتعليم، والانفتاح على الخارج وثقافاته وأفكاره، واتساع عدد المتعلمين في الخارج بها، إضافة إلى انخراطها الكبير في ثورة الاتصالات والمعلومات، ما جعل المجتمعات الخليجية الأكثر تعليماً وانفتاحاً على الخارج، واتصالاً به مقارنة بالمجتمعات العربية الأخرى. كما أنها الأكثر حرصاً على التحول نحو مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة، والأكثر امتلاكاً لمقومات هذا التحول من الدول العربية الأخرى، فضلاً عن أنها الأكثر اهتماماً بالتعليم وإدراكاً لقيمته ودوره في مسارات التنمية، بحيث يمكن توقع تحول بعض دولها إلى مراكز إقليمية للتعليم خلال السنوات القادمة، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، في ظل الاهتمام الكبير الذي توليه للتعليم واعتبار سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، له قاطرة التنمية في مرحلة ما بعد النفط.

 

السبب الرابع، هو الأفكار الإبداعية وغير التقليدية التي تبنتها بعض دول المنطقة في تعزيز الثقافة وتوسيع دورها، ولعل المثال البارز في هذا الصدد، هو إنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة لفرع من متحف اللوفر، إضافة إلى فرع لمتحف «جونجهايم».

 

السبب الخامس، هو توافر الموارد المالية لدى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ما مكنها من الصرف على الفعاليات والنشاطات الثقافية، وخاصة أن هذا النوع من الفعاليات والنشاطات مكلف مالياً وهو في الوقت نفسه ليس ربحياً.

 

منظومة قيم

 

وأخيراً، فإن من الأسباب المهمة للنمو الثقافي في منطقة الخليج العربي، منظومة القيم الحديثة والإيجابية التي تم – ويتم العمل على ترسيخها – في الكثير من دول المنطقة، وخاصة قيم التعايش والحوار وقبول الآخر والانفتاح على أفكاره وثقافاته. ولعل حصول دولة الإمارات العربية المتحدة على المرتبة الثالثة عالمياً، في مؤشر الثقافة الوطنية المرتبط بدرجة التسامح والانفتاح وتقبل الآخر ضمن تقرير التنافسية العالمية 2016 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في «دافوس»، يعد مؤشراً مهماً في هذا الشأن. ولا شك في أن النهضة الثقافية التي تعيشها منطقة الخليج العربي منذ سنوات، قد أدت إلى تغيير الصورة النمطية عنها، سواء على الساحة الدولية أو الساحة العربية، وخاصة لدى الشباب العربي الذي غدا ينظر إلى المنطقة باعتبارها أمل العرب، ورمزاً لما يجب أن تكون عليه الدول العربية الأخرى، حتى إن استطلاعات الرأي المتخصصة – وفي مقدمتها استطلاع «أصداء بيرسون مارستيلر» السنوي – تؤكد أن دولة الإمارات العربية المتحدة، هي الدولة الأولى المفضلة للعيش والإقامة والتعليم والاستثمار بالنسبة إلى الشباب العربي. كما زاد هذا الحراك الثقافي من تأثير منطقة الخليج العربي في المنطقة العربية على المستوى الثقافي والإعلامي وعلى المستوى السياسي أيضاً، وخاصة أن الأدوات الثقافية لها دورها الكبير في التأثير في الرأي العام وصوغ التوجهات والمواقف لدى الناس. وفي هذا السياق فإن التنمية الثقافية التي تشهدها منطقة الخليج العربي أدت إلى تعزيز قوتها الناعمة في المنطقة العربية، بحيث أصبحت قادرة على التأثير في شعوب المنطقة بقوة النموذج الذي تمثله.

 

لكن السؤال المهم الذي أريد أن أطرحه، في ضوء كل ما سبق، هو: كيف يمكن تعزيز هذا الحضور الثقافي الخليجي على الساحة العربية والحفاظ عليه من ناحية، واستثماره لخدمة المصالح الخليجية والعربية العليا من ناحية أخرى؟

 

جوانب القصور

 

الخطوة الأولى في ذلك، هي النظرة الموضوعية إلى الواقع من دون مبالغة أو تهوين، فصحيح أن ثمة انتقالاً لمركز الثقل الثقافي العربي إلى منطقة الخليج العربي، إلا أن الصحيح أيضاً، أن هناك العديد من جوانب القصور في الحراك الثقافي في المنطقة الخليجية، وهي التي لا بد من أخذها في الاعتبار والعمل على معالجتها، أولها، ضعف الإنتاج الثقافي الخليجي، سواء على مستوى المؤلفات العلمية والفكرية، أو على مستوى الإنتاج الأدبي والفني والسينمائي، مقارنة بمناطق عربية أخرى. وعلى الرغم من تزايد هذا الإنتاج بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية، فإنه ما يزال دون المستوى المطلوب، وما يزال غير متناسب مع مظاهر الحراك الثقافي في المنطقة وما تعطيه القيادة فيها للثقافة من أهمية كبرى ضمن رؤاها التنموية. ثانيها، محدودية مساحة النخبة الثقافية الخليجية أو الكوادر الثقافية الخليجية بشكل عام، ولذلك نجد أن الغالبية العظمى من المشاركين في المسابقات الثقافية الخليجية، وفي مقدمتها جائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة دبي للصحافة العربية، والجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» في أبوظبي، وغيرها، هم من خارج منطقة الخليج العربي، وكذلك من يفوزون بهذه الجوائز. ثالثها، أن النهضة الثقافية في المنطقة ترتبط، في المقام الأول، بالدعم الحكومي، بينما هناك ضعف واضح لدور المؤسسات الأهلية أو غير الحكومية في هذا الشأن. رابعها، من الواضح أنه ليس هناك ترويج كافٍ للحراك الثقافي في منطقة الخليج العربي، بحيث يشعر به المواطن العربي في أي مكان في المنطقة العربية. خامسها، ليس هناك مشروع ثقافي خليجي واحد يرتبط بأهداف محددة، وإنما مشروعات ثقافية عديدة ومتنوعة، بل متنافسة ومتضاربة في بعض الأحيان، وهذا ينال بالتأكيد من تأثيرها وحضورها في الساحة العربية.

 

في ضوء ما سبق، ثمة حاجة إلى العمل على مسارات عديدة ومتوازية، فمن المهم دعم الإنتاج الثقافي الخليجي، بما يزيد من حجمه، سواء تعلق الأمر بالتأليف العلمي أو الأعمال الأدبية والفنية والسينمائية والمسرحية أو غيرها. إضافة إلى بناء كوادر ثقافية خليجية، تستطيع الحضور والمنافسة على الساحة الثقافية العربية والعالمية، وفي الوقت نفسه، استثمار المفكرين والكتاب الخليجيين البارزين، وخاصة من المعروفين على الساحة الدولية، لنقل الثقافة والفكر الخليجيين والعربيين إلى العالم، وخدمة القضايا العربية على الساحة الدولية. هناك حاجة كذلك إلى ربط الثقافة بالقوة الناعمة للدولة، من خلال بذل المزيد من الجهد للتعريف بالقيم الثقافية الحضارية الموجودة في المنطقة والمشروعات الثقافية الحضارية فيها، مثل: المتاحف ودور الأوبرا وغير ذلك، لأن كثيراً من الناس حول العالم ما زالوا ينظرون إلى منطقة الخليج العربي نظرة قديمة، وأكاد أجزم أن بعض الناس في العالم ربما لن يصدقوا أن هناك دار أوبرا أو مهرجاناً للسينما في هذه المنطقة، ما لم يتم الترويج لذلك وتعريف الناس به في العالم!. ولعل دولة الإمارات العربية المتحدة على وجه الخصوص، يمكنها أن تقوم بدور مهم في تعزيز دور الثقافة في خدمة القوة الناعمة من ناحية، وتقديم صورة إيجابية عن العالم العربي في العالم من ناحية أخرى، بالنظر إلى أنها من الدول المركزية في الحراك الثقافي في منطقة الخليج العربي، وتعبر عن منظومة قيم ثقافية حضارية، مثل: التسامح والتعايش والوسطية والاعتدال والانفتاح على الآخر والقبول به، تستطيع من خلالها أن تعالج التشوه الذي لحق بصورة العالم العربي وثقافته وحضارته لدى الشعوب الأخرى.

 

فرصة تاريخية

 

المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات

إن انتقال مركز الثقل الثقافي العربي إلى منطقة الخليج العربي، يمثل فرصة تاريخية للمنطقة، التي تمثل مركزاً أساسياً للتأثير السياسي والاقتصادي أيضاً، لقيادة حراك شجاع للإصلاح الديني والثقافي، يقدم إجابات حاسمة لأسئلة النهضة التي ما زالت معلقة منذ أن طرحها رواد النهضة العربية الأوائل في القرن التاسع عشر، وتتعلق بالموقف من الدين والتراث والتاريخ والمرأة والآخر المختلف في الدين والمذهب والعرق، وغير ذلك من الأسئلة التي لم يستطع العرب أن يقدموا إجابات قاطعة عليها، على مدى أكثر من قرن من الزمان لأسباب مختلفة، وحان الوقت لتقديم هذه الإجابات إذا أراد العالم العربي أن يكون جزءاً فاعلاً من العصر الذي يعيشه العالم، فضلاً عن المستقبل، بل إذا أراد أن يكون له وجود حقيقي في هذا المستقبل أصلاً، فلم نعد نمتلك ترف الانتظار أو التردد، لأن العالم يتحرك بسرعة غير طبيعية من حولنا، ولن نستطيع مجاراته في سرعته ونحن مكبلين بهذه الأسئلة التي تشدنا إلى الوراء وتعوق حركتنا إلى الأمام، والمستقبل لا ينتظر أحداً. وأعتقد أن منطقة الخليج العربي هي المؤهلة، ربما أكثر من غيرها في المنطقة العربية الآن، لإنجاز هذه المهمة الحضارية وقيادة مرحلة جديدة من التنوير في المنطقة تستكمل من خلالها أهداف المرحلة التي بدأت في القرن التاسع عشر، ولكنها لم تكتمل، أو لم تسر في طريقها الذي كان يجب أن تسير فيه، كما حدث بالنسبة إلى حركة التنوير الأوروبي التي بلغت مداها، فبلغ معها الغرب ما بلغه من تفوق حضاري حاسم.

 

لكن السؤال المهم هنا، هو: أي منطقة خليج عربي نعني حينما نتحدث عن دور هذه المنطقة في قيادة حركة تنوير عربي جديدة أو استكمال حركة التنوير العربية التي لم تكتمل منذ القرن التاسع عشر؟. إن الدافع إلى هذا السؤال هو – كما قلت سابقاً – أن ثمة مشروعات ثقافية مختلفة في المنطقة، لا تنتظم ضمن رؤية واحدة أو توجه موحد، وخاصة في ظل وجود مشروعات مذهبية وأخرى تتبنى فكر جماعة الإخوان، وهذه الأخيرة لا يمكن أن تكون جزءاً من الحراك الثقافي الخليجي الذي أقصده وتحدثت عنه في هذا المقال، كما لا يمكن أن تكون جزءاً من أي قيادة خليجية للتنوير في المنطقة، لأنها هي ذاتها ضد هذا التنوير، ومن ثم فإن ما أعنيه هنا بالحراك الثقافي الخليجي، هو ذلك الحراك الذي يتجه إلى المستقبل ولا يشدنا إلى الماضي، والذي ينخرط في حضارة العصر ولا ينعزل عنها، والذي ينفتح على العالم ولا يتصادم معه، والذي يدرك مكامن القوة في الحاضر والمستقبل ويأخذ بها. ولا شك في أن دولة الإمارات العربية المتحدة، بهذه المعايير والمقاييس، تمتلك قصب السبق الثقافي في المنطقة، وعليها مسؤولية حضارية كبرى في تعزيز التوجه نحو التنوير فيها.

 

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى