إفريقي ومغاربيالأخبارتقارير ودراسات

الأزمات الجيوسياسية في جمهورية مالي في إطار القانون الدولي الإقليمي والقاري: نقد وتحليل / د. موري دوكوري أبوبكر سومارورو

خلفية الأزمة السياسية في جمهورية مالي:

بدأت الاضطرابات الأخيرة في جمهورية مالي بانقلاب عام 2012م الذي أطاح بالرئيس أمادو توماني توري، نفَّذه جنود معارضون لما اعتبروه ردّ فعل ضعيف على التمرد الانفصالي المتزايد مِن قِبَل متمردي الطوارق في شمال البلاد.

 

وازدادت قوة المتمردين المسلحين بسبب تدفُّق الأسلحة من ليبيا المجاورة في أعقاب زعزعة الأمن في ذلك البلد نتيجة مقتل معمر القذافي ضمن ثورات ما يسمى بالربيع العربي عام 2011م.

 

وبعد الفترة الانتقالية، تم انتخاب إبراهيم أبو بكر كيتا في عام 2013م بتفويض لمتابعة محادثات السلام مع الانفصاليين. ووقَّع اتفاقًا في 2015م مع بعض الجماعات المتمردة، والذي منح الشمال ذا الكثافة السكانية المنخفضة حُكمًا ذاتيًّا أكبر، لكن انتقد هذه المبادرة بعض الخبراء لعدم اشتمالها على فصائل مسلحة أخرى.

 

استغلت هذه الجماعات المتطرفة -بعضها مرتبط بالقاعدة وتنظيم الدولة (داعش)- فوضى تمرد الطوارق لشن هجماتها الخاصة، وكذلك الميليشيات المحلية التي تشكلت للدفاع عن نفسها في ظل تدهور الوضع الأمني.

 

أدت إعادة انتخاب كيتا لمأمورية ثانية في 2018م، التي وُصِفَتْ بانخفاض تصويت الناخبين ومزاعم التزوير، ما أدَّى إلى تفاقم الإحباط المتزايد بين الجمهور، ولا سيما الشباب في البلاد.([1])

 

جدير بالذكر أن حركة خمسة يونيو المعارضة The 5 June Movement التي استوعبت شعبية كبيرة في الدولة تحت تنظيم الأحزاب المعارضة؛ بسبب تدهور الاقتصاد والوضع الأمني، وادعاء التزوير وعدم الشفافية في الانتخابات التشريعية في مارس عام 2020م رغم تفشّي فيروس كورونا، ولا سيما بعدما ألغت المحكمة الدستورية 31 من نتائجها، القرار الذي منح حزب إبراهيم كيتا المخلوع 10 مقاعد برلمانية أخرى، مما جعله الكتلة الأكبر في السلطة التشريعية من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى المظاهرة وبالتالي إلى الانقلاب على حكومة كيتا 18 أغسطس 2020م([2]).

 

 وفي الأسطر التالية، ستُسلّط المقالة الضوء على مواقف قانونية وتشريعية دولية من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (منظمة دولية إقليمية – الايكواس) ومنظور الاتحاد الإفريقي (منظمة دولية قارية).

 

الإيكواس من التأسيس إلى أزمة جمهورية مالي السياسية:

 

المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا أو الإيكواس، هي مُنظمة دولية سياسية واتحاد اقتصادي إقليمي يتكون من خمس عشرة دولة تقع في منطقة غرب إفريقيا. تُغطّي هذه البُلدان مُجتمعةً مساحة 5,114,162 كيلومتر مربع.

 

تاريخيًّا، تعود فكرة إقامة تأسيس المجموعة الاقتصادية بين دول غرب إفريقيا إلى خمسينيات القرن الماضي، وقد ترجمها الاتحاد الجمركي الذي قام عام 1959م بين فدرالية مالي (السنغال ومالي) وبين دول الوئام الأربعة، وهي بوركينا فاسو (فولتا العليا سابقًا)، وبنين (داهومي سابقًا) والنيجر وساحل العاج.

 

وعند حصول دول المنطقة على استقلالها من القوى الاستعمارية الأوروبية، ظهرت فكرة تأسيس منظمة للتعاون الاقتصادي والسياسي معًا. فكانت النواة الأولى مبادرة رئيس ليبيريا الأسبق السيد/ وليام تومبان في 1964م إلى إقامة منظمة تعاون لدول المنطقة، وأثمرت هذه الدعوة في العام التالي عن توقيع اتفاق للتعاون البيني بين ليبيريا وساحل العاج وغينيا وسيراليون، بيد أنَّ المشروع أخفق. وفي عام 1972م بُعث المشروع مجددًا على يد الرئيس النيجيري السيد يعقوب كون، والتوغولي السيد نياسينغبي أياديما، فقاما بجولة طويلة في 12 دولة إفريقية لإقناع قادتها بالانخراط في المشروع. وفي إطار ذلك تم تأسيس المجموعة في 25 مايو 1975م بموجب اتفاقية لاغوس، وتتخذ من أبوجا عاصمة نيجيريا مقرًّا لها([3]).

 

واللغات الرسمية للمنظمة هي الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية. تضُم المجموعة 15 دولة عُضوًا؛ وهي: الرأس الأخضر وغامبيا وغينيا وغينيا بيساو وليبيريا ومالي والسنغال وسيراليون وبنين وبوركينا فاسو وغانا وساحل العاج والنيجر ونيجيريا وتوغو، وقد انضمت كُلّ هذه الدول إلى المجموعة في دورتها التأسيسية في مايو 1975م، باستثناء الرأس الأخضر التي انضمت سنة 1976م. كانت موريتانيا دولة عُضوًا في المجموعة إلى غاية عام 2000م، حين انسحبت عضويتها من المجموعة، وقد أبدت نيتها العودة إلى الكتلة، ولكن لا تزال تحت النقاش.

 

وللإيكواس قوانين واتفاقيات حيال الانتخابات والانقلابات في دول الأعضاء. وجمهورية مالي من موقّعين ومُلزمين بهذه الاتفاقيات، الأمر الذي جعل المنظمة تتَّخذ موقفًا من الانقلاب على رئيس جمهورية مالي الراحل إبراهيم أبو بكر كيتا، وبالأخص فرض العقوبات السياسية والتجارية والاستراتيجية الصارمة نتيجة اجتماع قادة دول المجموعة الأخير في أكرا، عاصمة غانا ٩ يناير ٢٠٢٢م. وذلك بعدما اقترحت السلطات الانتقالية في مالي إجراء انتخابات في ديسمبر 2025م بدلًا من فبراير، كما تم الاتفاق عليه في الأصل بين المجموعة وبين الحكومة المالية ([4]).

 

قوانين الإيكواس تجاه الأزمة:

 

بعيدًا عن العواطف السياسية والجيواقتصادية للوضع السياسي والأزمة الحالية في جمهورية مالي، فإنّ هناك قوانين دولية وإقليمية موقَّعة من دولة مالي، وتستخدمها المجموعة لتحديد مصير الحالة السياسية في الدولة. فمن تلكم الالتزامات الدولية لمالي هو بروتوكول بشأن الديمقراطية والحكم الرشيد للإيكواس 2001م.

 

حسب القسم الأول البند (١) مبادئ التقارب الدستوري من البروتوكول، والذي ينص ما يلي: (ب) يجب أن يتم كل وصول إلى السلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، (ج) عدم التسامح المطلق مع السلطة التي يتم الحصول عليها أو الحفاظ عليها بوسائل غير دستورية. فبناءً على هذه البنود وغيرها حصل من بداية أزمة مالي السياسية عدم التفاهم وتفاقم الأمر بين المجموعة بين العسكريين؛ إذ إنّ الرئيس الراحل المخلوع كان منتخبًا من كل الشعب لمأمورية كانت سارية، ومن ثَمَّ فإن وصول العسكريين إلى السلطة لم تكن شرعية حسب التزامات جمهورية مالي الإقليمية([5]).

 

قوانين الاتحاد الإفريقي حيال الانقلابات والتغيرات غير الدستورية للحكومات الديمقراطية:

 

منذ الاستقلال، عانت معظم الدول الإفريقية من انقلابات. شهدت إفريقيا أكثر من ٢٠٠ انقلاب عسكري ناجح أو الذي تم إحباطه منذ عام 1960م. من ثمانينيات القرن الماضي إلى السنوات الأخيرة، كانت وصارت الانقلابات هي الأكثر شيوعًا كشكل من أشكال التغيير الحكومي كما حصل في جمهورية مالي وغينيا كوناكري وبوركينا فاسو مؤخرًا.

 

مواجهة مثل هذه التغيرات غير الدستورية دفع القادة الأفارقة إلى اتخاذ إجراءات على المستوى القاري، من أجل إنهاء التقليد الذي لكل أولئك الانقلابيين من الاستيلاء على السلطة. في عام 2000م سلف الاتحاد الإفريقي، منظمة الوحدة الإفريقية (OAU)، اعتمدت إعلان لومي بشأن إطار استجابة منظمة الوحدة الإفريقية لعدم الدستورية تغييرات الحكومة، والتي حددت أربع حالات: ١) انقلاب عسكري. ٢) تدخل المرتزقة. ٣) استيلاء الجماعات المسلحة المنشقة وحركات التمرد على السلطة؛ و٤) رفض الحكومة الحالية التنازل عن السلطة بعد انتخابات حرة ونزيهة ومنتظمة.

 

تألفت العقوبة الجديدة من تعليق عمل البلاد المعنية من منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حاليًا). وأُعيد التأكيد على هذا النظام في القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي الذي يتضمن من بين مبادئه الحاكمة: “إدانة ورفض التغييرات غير الدستورية للحكومات”. تنص المادة ٣٠ منه على أن “الحكومات التي تصل إلى السلطة من خلال وسائل غير دستورية لا يسمح لها بالمشاركة في أنشطة الاتحاد”.

 

وحسب إعلان لومي الصادر في يوليو 2000م بشأن إطار عمل استجابة منظمة الوحدة الإفريقية للتغييرات غير الدستورية للحكومات “عندما يحدث تغيير غير دستوري كما هو منصوص عليه في تعريف التغيير غير الدستوري أعلاه، في إحدى الدول الأعضاء؛ ينبغي للرئيس الحالي لمنظمة الوحدة الإفريقية وأمينها العام، نيابةً عن منظمتنا، إدانة هذا التغيير على الفور وعلنًا، والحث من أجل العودة السريعة إلى النظام الدستوري.

 

كما ينبغي للرئيس الحالي والأمين العام أن يوجهوا تحذيرًا واضحًا لا لبس فيه إلى مرتكبي التغيير غير الدستوري بأنه لن يتم، تحت أي ظرف من الظروف، التسامح مع أعمالهم غير القانونية أو الاعتراف بها مِن قِبَل منظمة الوحدة الإفريقية.

 

وفي هذا الصدد، ينبغي على الرئيس الحالي والأمين العام أن يحثا على اتساق الإجراءات على المستويات الثنائية، وفيما بين الدول، والإقليمية الفرعية والدولية. وبعد ذلك يجتمع الجهاز المركزي، على وجه الاستعجال، لمناقشة هذه المسألة”.

 

وحسب المادة (٢٥) (١) من الميثاق الإفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم “عندما يلاحظ مجلس السلم والأمن أنه كان هناك تغيير غير دستوري للحكومة في دولة عضو، وفشلت المبادرات الدبلوماسية، يجب أن توقف تلك الدولة عن ممارسة حقها في المشاركة في أنشطة الاتحاد وفق أحكام المادتين 30 من القانون التأسيسي، ويجب أن يصبح التعليق ساري المفعول على الفور”.

 

وجمهورية مالي من أعضاء هذه المنظمات والمواثيق، ومن ثَم يتوجب على الاتحاد الإفريقي التنديد بالانقلاب فيها، وأخذ الإجراءات اللازمة ضد مالي وفق الاطار القانون الدولي القاري الذي ألزمت دولة مالي نفسها بها.

 

التبعات الأمنية الاستراتيجية والجيوسياسية والإنسانية لأزمة جمهورية مالي على المنطقة:

 

إنّ مما لا يمكن تجاهله ألبتة هو وجود تبعات أمنية واستراتيجية وسياسية ناتجة ونابعة ومتفرعة عن الأزمة في جمهورية مالي على منطقة الإيكواس خصوصًا، وعلى القارة الإفريقية عمومًا.

 

وفيما يلي  جملة من تلك التبعات:

 

أولًا: التبعات الأمنية الاستراتيجية:

 

فمن منطلق هذه الأزمة في أواخر أيام فترة حكم رئيس توماني توري عام ٢٠١٢م، ومع نهايات وآثار الربيع العربي في دولة ليبيا المجاورة، ظهر تهديدان رئيسيان في الدولة:

 

الأول: هو ظهور حركة الانفصاليين من جماعات الطوارق المتمردة في شمال مالي الذي يشكل ٦٦٪ من الأراضي المالية. فقبل الظهور الأخير للجماعة عام ٢٠١٢م كانت دولة جزائر قامت بمحاولات للوساطة بين الحكومة المركزية المالية والأزواد في شمال البلاد، ولكن لم تُؤت أُكُلها بعد([6]).

 

والثاني: ظهور جماعات متسلحة إرهابية منتسبة إلى القاعدة وداعش. فلا شك أنّ فرض العقوبات من قبل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا الصارمة مُغذٍّ ومقوٍّ لكلتا الجماعتين المتحالفتين ضد الحكومة المركزية في الدولة. وقد يُشكِّل ذلك خطرًا استراتيجيًّا لمنطقة غرب إفريقيا كلها، ولا سيما مِن قِبَل الجماعات الإرهابية.

 

ثانيًا: التبعات الإنسانية:

 

لا يمكن ألبتة انفكاك الأزمات السياسية في جمهورية مالي -ومع فرض العقوبات عليها- عن التبعات الإنسانية والغذائية والانتهاكات الحقوقية في دولة مالي ودول الجوار في منطقة الإيكواس. فبسبب زعزعة الأمن في البلد، تشير بعض التقارير إلى أنَّ هنا أكثر من ١٩ مليون شخص متضرر من الحروب والهجمات الإرهابية([7]).

 

كما أن الدولة غير ساحلية ولا يوجد بها ميناء، ولذا فهي تعتمد على دول الجوار؛ السنغال، كوت ديفوار، غينيا كوناكري وبوركينا فاسو لاستيراد البضائع والسلع الأساسية كالغذاء.

 

وعليه، فسبب الأزمة السياسية الناتجة عن الانقلاب على الرئيس الراحل إبراهيم كيتا، والتي دعت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) لفرض العقوبات الجيوسياسية والاقتصادية على جمهورية مالي.

 

ولا شك، أنّ هذه القرارات تسبّب خطرًا إنسانيًّا على المدنيين والمواطنين في مالي من حيث ندرة السلع الأساسية وتضييق الخناق على التصدير الذي يوفّر الدخل لجملة كبيرة من الشعب، ولا سيما من مجال تعدين الذهب وغيره. لهذا كان من الأحسن مراعاة ظروف المدنيين، وذلك بعدم إغلاق الحدود للسلع الأساسية من دول الجوار التي تستند عليها مالي للاستيراد.

 

ثالثًا: التبعات الجيوسياسية:

 

من الآثار الناجمة عن أزمة مالي وفرض العقوبات عليها من الإيكواس التبعية الجيوسياسية. وذلك أنّ الديمقراطية التي تمتعت بها دولة مالي نسبيًّا من فترة حكم الرئيس ألفا عمر كوناري (١٩٩٢-٢٠٠٢م) إلى فترة حكم الرئيس توماني توري وإلى فترة حكم إبراهيم كيتا قد تحدت بسبب المشكلات السياسية في الدولة. من حيث التحليل الجيوسياسي، قد ترجع المنطقة إلى فتراتها الداكنة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي مِن قِبَل العسكريين كما حصلت في نيجيريا وغانا وليبيريا في بداية الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وفي غينيا كوناكري لما توفي رئيسها السابق الجنيرال لنسنا كوناتي عام ٢٠٠٨م، فتولى الحكم بدون العمل بالدستور كابيتن موسى داديس كمارى بدلاً من رئيس البرلمان الذي كان من المفروض أن يقود الدولة إلى الانتخابات حسب دستور دولة غينيا.

 

والدليل على هذا أنّ العسكريين تولوا الحكم في جملة من الدول الإفريقية خارج نطاق الشرعية خلال السنوات الثلاث الأخيرة. فمثلاً في تشاد لما اغتيل رئيسها السابق إدريس ديبي، وفي غينيا كوناكري كما تم الانقلاب على رئيس ألفا كوندي مِن قِبَل الكولونيل ممادي دومبويا في سبتمبر ٢٠٢١م، وحصل قريبًا في بوركينا فاسو الانقلاب على الرئيس روك مارك كابوري بقيادة الكولونيل بول هنري سانداغو داميبا([8])، من امتداد حوادث استيلاء العسكريين على السلطة في كلٍّ من مالي وغينيا في المنطقة خلال عامي ٢٠٢٠-٢٠٢١م بدون دستورية وشرعية وفق القوانين الدولية وحتي المحلية.

 

فالفشل في حلّ الأزمة السياسية الذي أدَّى إلى الانقلاب يهدد الديمقراطية والدستورية في المنطقة. وقد يعود ذلك إلى عدم ثقة الشعوب الإفريقية في مبادئ الديمقراطية الغربية بحذافيرها. فقد يلاحظ من المحادثات السياسية الإفريقية أنّه يتوجب وينبغي خلق نظام سياسي ملائم للعادات والتقاليد الإفريقية، والتي تسرع عجلة النمو الاقتصادي والنهضوي.

 

ورغم أنَّ الانقلابات الأخيرة في المنطقة تنافي دساتيرها المحلية ومواثيقها الدولية والإقليمية، لكن يُلاحظ أنَّ جملة كبيرة من الشعوب يؤيدونها بدعوى أنَّ القادة والسَّاسة لا يسعون إلا لمصلحة الغرب، وبالأخص فرنسا اختفاء تحت ستار الديمقراطية.

 

خلاصة القول: إن حالة مالي السياسية لا تختلف كثيرًا عن دول المنطقة. فجيوسياسيًّا، إذا لم تُعالَج المشكلة بالحنكة والذكاء السياسي قد يتكرر ما حصل فيها –دولة مالي– في كثير من دول القارة أو ينشئ ما قد أسميه الحركة “البنيإفريقية الجديدة” القائمة ضد النظام الديمقراطي الغربي، وإيجاد البدائل الاقتصادية والسياسية للقارة أو انتفاضة الصيف الإفريقي محاذية لانتفاضة الربيع العربي عام ٢٠١٠م والتي حركت السياسات والحكومات في العالم العربي بسبب تفشّي الفساد الإداري ونهب ثروات الشعب وعدم توزيع الفرص والموارد الوطنية بالعدل.

 

نقد وتحليل مواقف الإيكواس والردود الفعلية:

 

مع وقوع الانقلاب في جمهورية مالي، اتخذت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا قرارات ضد حكومة الانتقالية في الدولة، ولكن فرض العقوبات الصارمة الأخيرة النابعة من الاجتماع الاستثنائي في أكرا عاصمة غانا حركت مشاعر جملة كبيرة من الماليين والأفارقة عليها بأسباب؛ منها ما يلي:

 

 الأول: عدم مراعاة الإيكواس التبعات الإنسانية للعقوبات؛ فإغلاق الحدود البرية والبحرية وتجميد الحسابات الحساسية للدولة لها عواقب إنسانية وإن لم تكن مقصودة بذاتها.

 

 الثاني: الإيحاء والادعاء من بعض المحليين السياسيين الأفارقة وغيرهم بأنّ المقصود من قرارات الإيكواس وعقوباتها الصارمة على مالي إنما هو إملاء من فرنسا على حلفائها وعملائها الساسة في المنطقة، ولا سيما من كوت ديفوار وبوركينا فاسو والتي أطيح برئيسها مؤخرًا بعد قرارا الإيكواس المؤيد منه ضد مالي.

 

ومن جانب آخر، ينتقد قرار المجموعة الاقتصادية (الإيكواس) بأنّها فشلت من حماية الديمقراطية فور الانقلاب على إبراهيم كيتا بعقوبة شديدة ليرجع الحكم إلى المدنيين فورًا، وإنما كان هناك مجاملات سياسية على حساب الدستورية والديمقراطية. بمعنى أنه كان من الواجب على المجموعة أخذ التدابير الاستباقية من أول وهلة إشعار حدوث الانقلاب في الدولة بدلاً من الانتظار حتى وقع الفأس على الرأس وصُبّ الماء على الأرض وسال.

 

فعلى الإيكواس الاهتمام بالدستورية في الدول الأعضاء؛ فتغير النظام الدستور والتلاعب به لتمديد مأموريته كما حصل في غينيا كوناكري مِن قِبَل حكومة ألفا كوندي المخلوع وكوت ديفوار من إدارة الحسن واتارا من دواعي زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، وبالتالي إعطاء فرصة للعسكر للانقلابات إذا اضطر الأمر لذلك بسبب عدم رضا الشعب بالسياسة والاقتصاد. وبالإضافة إلى الدستورية، ينبغي للإيكواس محاربة الفساد وتشجيع التنمية وخلق فرص العمل للشباب، وإلا ستموت مفاهيم الديمقراطية الضيقة التي تدور حول ذهاب رئيس بعد فترته الدستورية، وانتخاب آخر بدون حقيبة اقتصادية وتنموية ملموسة.

 

الخاتمة:

 

يمكن القول في إطار القانون الدولي الإقليمي والمتمثل في اتفاقيات الإيكواس بأنَّ فرض العقوبات على الحكومات العسكرية الانتقالية، ولا سيما التي جاءت إلى السلطة عن طريق الانقلاب على الدستورية والشرعية كان وفق النظام والتزامات جمهورية مالي نفسها في مواثيق المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا عن الحكم الرشيد. فمثلاً بروتوكول بشأن الديمقراطية والحكم الرشيد للإيكواس 2001م ينص القسم الأول البند (١) مبادئ التقارب الدستوري من البروتوكول والذي ينص ما يلي: (ب) يجب أن يتم كل وصول إلى السلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة وشفافة (ج) عدم التسامح المطلق مع السلطة التي يتم الحصول عليها أو الحفاظ عليها بوسائل غير دستورية. فبناءً على هذه البنود وغيرها حصل من بداية أزمة مالي السياسية عدم التفاهم، وتفاقم الأمر بين المجموعة بين العسكريين؛ إذ إنَّ الرئيس الراحل المخلوع كان مُنْتَخبًا من كل الشعب لمأمورية كانت سارية، ومِن ثَمَّ وصول العسكريين إلى السلطة لم تكن شرعية حسب التزامات جمهورية مالي الإقليمية.

 

ولكن حدة العقوبات تسبّب التبعات الإنسانية؛ نظرًا لطبيعة وطوبوغرافية دولة مالي، فإغلاق حدودها مع دول الجوار التي تعتمد عليها كثيرًا للاستيراد لعدم احتوائها موانئ بحرية ليتضرر بها الشعب الذي ليس له ذنب في الأزمة. كما يشار إليه بأنَّ رد فعل الإيكواس خلال الأزمات دون وضع القرارات الصارمة لتفاديها من أهم عوامل الأزمات الجيوسياسية في المنطقة.

 

وعلى قادة وساسة دول المنطقة الدمج بين الديمقراطية المعنوية والديمقراطية الحسية. فالديمقراطية المعنوية تتكون في تعددية الأحزاب والالتزام بالمأموريات المسموحة في الدساتير، وذلك بنقل الحكم سلميًّا من رئيس إلى رئيس، بينما الديمقراطية الحسية تتمثل في محاربة الفساد، وخلق فرص العمل وبناء البنى التحتية، وتطوير أنظمة التعليم الرعاية الصحية، بالإضافة إلى سيادة القانون وغيرها. فعند غياب هذه الأسس، ستظل هناك الأزمات السياسية، وسيجد العسكريون فرصة الانقلاب بدعوى الثورية وإصلاح النظام، وسيؤيدهم الشعب لأنه لا يريد إلا الاستقلال الاقتصادي والتنموي اللذين لا يأتيان إلا بالديمقراطية المعنوية والحسية معًا.

 

للقراءة من المصدر : هنا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى