الأخبارتقارير ودراسات

الإعلام العربي .. إشكالات الماضي والراهن (1/2) / حيّان جابر

 تعيش منطقتنا أزمات متراكمة ومتتابعة على جميع الأصعدة، حتى يكاد يصعب الفصل بينها، وهو ما ينعكس إعلاميا. وانطلاقا من القدرات الهائلة التي يمتلكها الإعلام، ومن قدرته على التأثير والتغيير، يحسن نقاش أزماته، وأوجه القصور التي تعيق امتلاكنا إعلاما مهنيا وموضوعيا، يتوغل في المجتمع، ويعبر عن مخاوفه وإرهاصاته اليومية والمستقبلية، ويطل على المستقبل، من خلال إفساح المجال أمام نقاش الرؤى والأفكار والبرامج الطامحة للنهوض بالواقع العربي الرث إجمالاً، بكل حيادية وعلمية وموضوعية، أي على اعتباره سلطة رابعة حقيقية. تجنبنا انحداره إلى عالم الإعلام الموجه، والصوت والفكر الواحد، وانتقائية الخبر، ومركزية المصالح الفردية على حساب المصالح والقضايا الوطنية الجامعة.

 

وعلى الرغم من القفزة الكبيرة التي شهدها الإعلام في مرحلة البث الفضائي، إلا أن الواقع الإعلامي الحالي يطغى عليه مهنيا طابع فئوي مغلق وجامد نسبيا، يعكس طبيعة الانقسامات والخلافات المتفجرة في المنطقة. كما يسود خطاب الاتهام والتخوين والتشهير العبثي، من دون أية أدلة ومؤشرات حقيقية ملموسة في الجزء الأكبر من الوسائل الإعلامية العربية المسموعة والمرئية والمقروءة، على حساب تراجع حضور النقاشات والجدالات الموضوعية المبنية على حقائق ميدانية وعلمية، أو على بعض النصوص المنشورة من دون تحريف وتزييف. فضلا عن تخبط التوجهات والأهداف المحلية والوطنية والإنسانية عموما، ما يؤدي إلى عدة انحرافات أخلاقية وسياسية وقانونية، ويسهم في ضرب ثقة المتابع بالوسائل الإعلامية عموما، وببعض الوسائل ذات التوجهات الواضحة خصوصا. طبعا لا يمكن تعميم كل ما سبق ذكره على جميع الوسائل الإعلامية، وإن كان العثور اليوم على وسيلةٍ إعلاميةٍ واحدة، لا تمارس بعض أوجه القصور سابقة الذكر أشبه بالمهمة المستحيلة.

 

 إعلام الصوت الواحد

 

كان الإعلام المسموع والمقروء الوسيلة الأكثر انتشارا عربيا في الحقبة التي تبعت الاستقلال وتأسيس الدولة الوطنية، نظراً إلى تأخر دخول التلفاز وانتشاره في المنطقة، فقد تراوحت  بدايات البث التلفزيوني من دولة عربية إلى أخرى لما يقارب 28 عاما، بين افتتاح التلفزيون العراقي في 1956 والموريتاني في عام 1984، من دون أن يعكس افتتاح التلفزيون الوطني مدى انتشار أجهزة التلفاز شعبيا على امتداد الدولة الوطنية، نتيجة غياب التيار الكهربائي وغلاء ثمن التلفاز في تلك الحقبة، ونتيجة أسباب اجتماعية وثقافية موروثة أخرى، وهو ما ساهم في ضعف دور الإعلام البصري، على امتداد مجمل هذه الحقبة، لصالح الراديو والصحافة، وإن استأثرت هيمنة الصحف على الوسط النخبوي الثقافي، بينما راج الراديو والمحطات الإذاعية في غالبية الأماكن والبلدات العربية.

 

بعيدا عن الدخول في متاهات الحديث عن الوسائل الإعلامية الأكثر انتشارا وتأثيرا على المستوى العربي في تلك المرحلة، نجد أن مقولة “إعلام الصوت الواحد” هو التوصيف الأفضل والأنجح لمجمل الإعلام الوطني، فقد ساد الخطاب والفكر والمنطق الواحد على مجمل توجهات الوسائل الإعلامية التابعة للدولة وبرامجها، بما فيها الإعلام الحزبي، وإن كانت مرحلة الإعلام الحزبي قصيرة وهامشية نسبيا في غالبية الدول العربية، إن لم نقل جميعها. وعليه، وعلى الرغم من الحيوية والنشاط اللذين طبعا الوسائل الإعلامية في تلك المرحلة، إلا أنها كانت ذات توجهات مقولبة ومعدة سلفا، يطغى عليها تضليل المتابعين، وإخفاء الحقائق وتحريفها، حتى في النشرات الجوية والرياضية، ما أفقدها جزءا كبيرا من مصداقيتها الشعبية، أيا كانت المواضيع التي تتناولها، وخصوصا ذات الطابع السياسي الداخلي أو الإقليمي والخارجي.

 

وهو ما دفع مواطنين عربٍ عديدين إلى البحث عن مصادر إذاعية أكثر واقعية ومصداقية، ومن أبرزها إذاعة الشرق الأدنى التابعة لوزارة الخارجية البريطانية، والتي بدأت البث في عام 1941 من مدينة يافا الفلسطينية، نقلت الحكومة البريطانية بث الإذاعة ومقرها إلى قبرص في العام 1948، حتى العدوان الثلاثي على مصر في 1956، العام الذي شهد استقالة جميع موظفيها، احتجاجا على العدوان الثلاثي على الهواء مباشرة. وبذلك انتهى دور المحطة إعلاميا، وإن استمرت بالبث، تحت مسمى جديد، صوت بريطانيا، إلا أنها خسرت مصداقيتها وشعبيتها داخل الأوساط العربية النخبوية والشعبية منذ ذلك الوقت. كما نجحت إذاعة صوت العرب التي تم إنشاؤها عام 1953، في حقبة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، في استقطاب الجمهور العربي، عبر خطابها العربي الوحدوي المناهض للاستعمار عموما، بينما تراجعت شعبيتها وضعف دورها في السنوات اللاحقة. الأمر الذي أفرغ الساحة الإعلامية من المنافسة ومهد الطريق أمام إذاعة بي بي سي العربية، كي تتصدّر المشهد الإعلامي العربي، وتحظى بأكبر نسب متابعة، كونها من المحطات القليلة التي نقلت الأخبار، وحللتها بمصداقية وشفافية غير موجودتين في أيٍّ من وسائل الإعلام الوطنية والمحلية في حينه. وعليه، أصبحت “بي بي سي” العربية بمثابة المرجع الإعلامي الوحيد على الساحة العربية، سواء في ما يخص المتابعة الخبرية أو فيما يتعلق بالكفاءة المهنية، ونجحت في استقطاب أهم الكوادر الإعلامية والتقنية، وجعلت من كادرها مطلبا لجميع الوسائل الإعلامية العربية الحديثة والجدية التي ظهرت لاحقا في مرحلة الإعلام الفضائي.

 

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى