الأخبارتقارير ودراساتقضايا المجتمع

التطرّف في مجتمعاتنا العربيّة: الأسباب والحلول / ممدوح مبروك

التطرّف في مجتمعاتنا العربيّة: الأسباب والحلول / ممدوح مبروك / باحث سياسي مصري

التطرّف ظاهرة عرفتها المجتمعات الإنسانيّة عبر تاريخها، ومن بين أبرز مظاهرها “التطرّف الدينيّ” الذي يقترن بالغلوّ والتشدّد في الخطاب، وكذلك اللّجوء إلى العنف، ورفض المُختلف إلى حدّ تكفيره، وإقصائه بشكلٍ كلّي. لا يقتصر التطرّف على النّطاق الدينيّ فحسب، بل يمتدّ أيضاً إلى المجالات الاجتماعيّة، والسياسيّة، والثقافيّة التي يسودها الاستقطاب، والأحاديّة في التفكير، والشعور بالاستعلاء، وتوهّم امتلاك الحقيقة المُطلَقة، والانزلاق إلى الثنائيّات التي تقلِّص من المساحات المُشترَكة بين المواطنين، والقوى السياسيّة، والتيّارات الفكريّة.

 

برزت ظاهرة التطرّف مؤخّراً في المجتمعات العربيّة نتيجة عمليّة إعادة تشكيل الأنظمة السياسيّة إثر الثورات العربيّة، وما نتج عنها من تفشّي التنظيمات المتطرّفة في الوطن العربي، وارتكابها أبشع المُمارسات في حقّ الإنسانية، فضلاً عن تصاعد خطاب التطرّف والكراهية دينيّاً، ومذهبيّاً، وسياسيّاً، وما ترتّب عنه من دخول بعض الدول في حروبٍ أهلية، ونزاعات طائفية، ودينية، وعرقية، الأمر الذي أصبح يُمثِّل تهديداً واضحاً للهويّة الوطنية، وأبرز مثال على ذلك تنظيم الدولة الإسلامية أو كما يُعرف إعلاميّاً بـ “تنظيم داعش” الذي يرتكب أبشع المُمارسات في حقّ الإنسانية تستّراً بالإسلام.

 

في ضوء ذلك، يبقى السؤال حول أسباب تفشّي ظاهرة التطرّف في مجتمعاتنا العربية وسُبل مواجهتها والتغلّب عليها؟

 

في الأسباب

 

على الرّغم من اختلاف الدوافع وراء مُمارَسة التطرّف، إلّا أنّه يُمكن حصر أهمّ أسبابه في ما يلي:

 

  • التعليم والتنشئة الاجتماعية على ثقافة الاستعلاء ورفض الآخر والانتقاص من شأنه وتراجُع التفكير النقديّ وانتفاء ثقافة المُشارَكة.

 

  • الخطابات الدينيّة المتعصّبة التي تستند إلى تأويلات وتفسيرات خاطئة، مُناقِضة لصحيح الإسلام.

 

  • الفقر والأمّية والجهل؛ تلك الثلاثيّة التي تدفع الشخص إلى الانسياق وراء خطابٍ دينيّ مشوَّه وفتاوى وتأويلات مغلوطة، وآراء ضيّقة الأفق، ومناخ مُعادٍ لثقافة الاختلاف، وفي أحيان كثيرة تكون “المرأة” في مقدّمة ضحايا التطرّف نتيجة تعثّر مسيرة التنمية الثقافية والاجتماعية في المجتمعات العربية.

 

  • الشعور بالقهر نتيجة المعايير المزدوجة في العلاقات الدولية تجاه قضايا العرب والمسلمين، والتي يأتي في مقدّمتها استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وغيرها من الأراضي العربية في ظلّ تقاعُس المجتمع الدولي عن اتّخاذ موقف حاسم وحازم إزاءها، والوقوف في وجه التطرّف الصهيوني السافر.

 

  • تنامي دَور قوى فاعلة، سواء كانت دولاً وجماعات، في تعزيز التطرّف، ورصْد المَوارد المادية والبشرية لتأجيج العنف في المجتمعات العربية بهدف خدمة مصالحها من ناحية، وإضعاف الأقطار العربية، وتمزيق أواصرها، وعرقلة انطلاق مسيرة التقدّم بها من ناحية أخرى.

 

  • غياب فاعلية قادة ورموز الفكر القادرين على مواصلة مسيرة سابقيهم من روّاد النهضة والتنوير في الوطن العربي، والذين قدّموا اجتهادات مُلهِمة نجحت في المزج بين الأصالة والمُعاصرة وتحديث بنية المجتمعات العربية من دون انقطاع عن جذورها الحضارية وأصولها الثقافية. وقد اقترن تراجُع تيّار التحديث بتصاعد خطابات متزمّتة فكريّاً، متطرّفة دينيّاً، استبداديّة سياسيّاً، مُنغلِقة اجتماعيّاً.

 

  • انتشار العديد من المنابر الإعلامية المحلّية، والإقليمية التي تبثّ خطابات تحضّ على التطرّف والكراهية، وتسيء إلى وسطيّة الفكر الديني المُعتدل، وتتجاهل منظومة القيَم الروحية العليا التي تمثِّل قواسم مُشترَكة بين الأديان كلّها.

 

  • الآثار السلبيّة للموروثات والعادات الاجتماعية والقيَم الثقافية التي أَنتجت تشوّهات ثقافية واجتماعية تغذّي نعرات الاستعلاء ضدّ المختلف، وتُشعل نيران الطائفية العرقية والمذهبية.

 

في مُكافَحة التطرّف

 

تتّخذ مسألة مُكافحة التطرّف أشكالاً عدّة أبرزها:

 

1- الخطاب الدينيّ

 

  • تصدّي المؤسّسات الدينية للمفاهيم التي تُروَّج في المجتمع، وبخاصّة بين الشباب، وفي مقدّمتها التفسيرات المشوَّهة لمفهومَي الجهاد ووضع المرأة، وكذلك الدعوة إلى تغيير الأوضاع القائمة بالعنف والخروج عن دولة القانون والمؤسّسات.

 

  • فتح أبواب الاجتهاد والمعرفة الأصيلة بمقاصد الشريعة والاعتراف بالمنظور التاريخي للتشريع وتطويره ليتواءم مع مقتضيات العصر وإحياء جهود المجدّدين من أعلام مفكّري الإسلام والتوافق مع مواثيق حقوق الإنسان، والعمل على استكمال ثقافة علماء الدّين بالمعارف المحدثة والفكر التنويريّ.

 

2- الثقافة    

 

  • مراجعة القوانين واللّوائح على النحو الذي يعزِّز الانطلاق الحرّ للفكر والإبداع في المجتمع، ويزيل العقبات التي تحول دون حرّية الرأي، والتصدّي لمحاولات فرض الوصاية الفكرية أو الرقابة الدينية.

 

  • التوسّع في إصدار الكُتب والمؤلّفات التي تدعم العقلانية والاستنارة، وتنشر الفكر النهضويّ، وتُحارب الخرافة والتطرّف وتفتح الأبواب للتفاعل الخلّاق مع منجزات الثقافة الإنسانية في العلوم الطبيعية والإنسانية.

 

  • تشجيع الحركة الفنّية لإبداع الأعمال الراقية التي تهدف إلى النهوض بثقافة النشء وتنمية المواهِب وصقلها في المؤسسات التعليمية والثقافية بشكلٍ منهجيّ منظَّم، وتشجيع نشر الفنون واكتشاف المَواهب الخلّاقة.

 

  • تيسير الوصول إلى المُنتَج الثقافيّ من خلال التوسّع في إنشاء المكتبات والمراكز الثقافية والأندية الأدبية، وكذلك مراكز الفنون، وتطوير المتاحف التي تجمع التراث الثقافي المُشترَك للشعوب، وتفعيل عمل مراكز الثقافة العربية بعقد الندوات التنويرية الحرّة بانتظام.

 

  • الإفادة من النشر الإلكتروني، وتدشين مواقع التواصل الاجتماعي بين الشباب التي تهدف إلى مُحاصَرة التطرّف، وثقافة العنف، وتدعيم حرّية الفكر ونشر الفنون الجميلة بالوسائل كافّة.

 

  • تخصيص ميزانيّات كافية لتمويل صندوق لمشروعات التنمية الثقافية ومُكافَحة التطرّف، وإسهام الدول القادرة في الجامعة العربية والدول المانِحة في تعزيز هذا الصندوق.

 

3- التعليم

 

  • الدعوة إلى توحيد نُظم التعليم – على الأقلّ في مرحلة التعليم الأساسيّ – وتقليص الازدواجيّة بين تعليمٍ مدنيّ وآخر دينيّ أو أجنبيّ لضمان تشكيل العقل العربي من دون تشرذم أو اضطراب والاعتماد على التوازن المعرفي بين العلوم الطبيعية والإنسانية وتربية وجدان النشء على تكوين المهارات الإبداعية والفنّية، وترسيخ ثقافة الديمقراطية.

 

  • تحديث النُّظم والبرامج التعليمية بهدف تعزيز قيَم التعدّدية والتعايش الإنساني، وتوفير المَعارف الأساسية الخاصّة بتاريخ الحضارات والأديان، والارتقاء بمستوى الوعي بمخاطر التطرّف والانغلاق الفكري، وإبراز إسهام العرب جميعهم، من مختلف الأديان والمذاهب والأعراق، في بناء الحضارة العربية والاحتكام إلى العقل وتنمية المَدارِك.

 

  • التأكيد على أهمّية “التربية المدنية” في برامج التعليم، بخاصّة في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي، لما لها من تأثير على تشجيع قيَم المُشارَكة، والتطوّع، والعمل المُشترَك، وحقوق الإنسان والإيمان بأهمّية التنوّع في إدارة العمل، ما يعزِّز التنوّع، والتعدّدية، بدلاً من الأحادية والانغلاق، وتشجيع الشباب على المشاركة الإيجابية في الأنشطة الرياضية والميدانية والمعلوماتية.

 

  • وضع برامج لتطوير القدرات الإبداعية في التعليم (الموسيقى والتصوير والشعر والمسرح والأدب وغيرها) لبناء جيلٍ مُبدع يُسهم في تعزيز البناء الثقافي للمجتمع، والتركيز على تنمية المواهب وتنشيط مراكز الشباب بشكلٍ منتظم.

 

  • وضع برامج لتطوير المكتبات المدرسية، وتجهيزها بأحدث المتطلّبات للارتقاء بدَورها في تشجيع القراءة والاطّلاع الرامي إلى تنمية التفكير الحرّ الناقد والمُبتكِر.

 

  • وضع برامج بحثيّة بالشراكة بين المؤسّسات العربية، تنصبّ على ظاهرة التطرّف، بمختلف أبعادها، والعمل على إصدار وثائق مرجعيّة– على الصعيد العربي– تتناول القضايا ذات الصلة.

 

  • تنقية برامج التعليم الدينيّ من الأفكار التي تشجِّع التطرّف، والعنف، أو تستند إلى فهم خاطئ للنصوص الدينية، وذلك حتّى يتم إدماجهما في منظومة واحدة تشمل الديني والمدني في مرحلة التعليم الأساسي.

 

4- الإعلام

 

  • حثّ المؤسّسات الإعلامية على الالتزام بالمواثيق المهنية والأخلاقية، والتي تتضمّن الابتعاد عن الخطابات المتعصّبة، أو ترويج آراءٍ من شأنها بثّ روح الفرقة والانقسام بين المواطنين.

 

  • إطلاق مُبادرة عربية لمُراجعة المعايير المهنية والأخلاقية، وسنّ التشريعات التي تجرِّم نشر المواد الإعلامية التي تبثّ الكراهية وتحرِّض على العنف.

 

  • تدشين برامج إعلامية مُشترَكة بين وسائل الإعلام العربيّ تفنِّد فكر التطرّف، وتهتمّ بقضايا العِلم والتنوير، وتكشف المُمارسات غير الإنسانية المُنافية للدّين والأخلاق والقيَم التي تُمارسها التنظيمات المتطرّفة.

 

  • الالتزام بالبثّ في ساعات الذروة للمواد الإعلامية ذات المستوى السياسي والثقافي الرفيع، ولاسيّما في مجالات المسرح، والموسيقى، والسينما، والفنون التشكيلية، وعروض الكتب الفكرية وسيَر وتَراجِم لكبار الأعلام، والاكتشافات العلمية والتكنولوجية.

 

في ضوء ما سبق يتّضح أنّ التطرّف ظاهرة معقّدة تتداخل فيها عوامل عديدة؛ ثقافية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وأمنية، وإعلامية، وتعليمية. وعلى الرّغم من أهمّية المُواجَهة الأمنية لتلك الظاهرة، إلّا أنّها تظلّ غير كافية؛ حيث يقتضي الأمر التركيز على جوانب أخرى قد تمثّل دوافع أساسية وراء الانضمام إلى التنظيمات المتطرّفة مثل: ربط الأمن بالتنمية، ومُواجَهة الفقر والبطالة والتهميش الاجتماعي، وتدعيم التعدّدية الدينية، وتعزيز المُواطَنة، والحفاظ على كيان الدولة القانونية الدستورية الحديثة، ومُواجَهة العنف والتمييز بأشكاله كافّة. وبالتالي يُمكن القول إنّ مُواجَهة التطرّف تتطلّب جهداً عربيّاً مكثّفاً خلال الفترة القادمة؛ فلا شكّ أنّ مستقبل المنطقة العربية أصبح مرهوناً بمدى قدرتها على مُحاصَرة التطرّف، والمضيّ على طريق العقلانية، والاستنارة، والتنمية، والتسامح، والتقدّم.

 

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى