مقالات و تحليلات

السياسي واللاهوتي في الإسلام.. أضواء جديدة / د. السيد ولد أباه

د. السيد ولد أباه / أكاديمي موريتاني

في كتابه الصادر مؤخراً بالفرنسية بعنوان «الغموض السياسي للإسلام»، يدافع الفيلسوف الإيراني المقيم في باريس «انوش غانجبور» عن تداخل اللاهوتي والسياسي في التقليد الإسلامي بطريقة دائرية تمنع بناء مشروع سياسي أيديولوجي على أساس الشرعية الدينية، كما تمنع في الآن نفسه فصل الدين كلياً عن السياسة على طريقة التجارب الغربية الحديثة.

على عكس المقاربات السائدة التي تعتبر أن الإسلام دين ودولة في الجوهر والأصل وأن الديني لا ينفصل عن السياسي في الإسلام، يرى غانجبور أن خصوصية الإسلام ضمن المنظور التوحيدي هي أن بنيته العقدية تحمل تصورين متمايزين، يحيل أحدهما إلى نموذج «الإله الحاكم» في مقابل «العبد الخاضع»، ويحيل ثانيهما إلى صلة القرب بين الخالق والمخلوق، وفق براديغم الرعاية والعناية وصلة المودة الخاصة بين الإله والإنسان.

ومن هنا لا يمكن فصل الروحانية الإسلامية عن هذا البعد السياسي الذي يتجلى في أطروحة الحكم والتدبير حتى لدى الصوفية والباطنيين، كما أن النظرية السياسية المتجردة من الروحانية الدينية ممتنعة بما يفسر عجز الفقهاء وبناة الدول عن فرض مقاربة شرعية للحكم السياسي.

ويخلص غانجبور إلى أن تيار الإسلام السياسي فشل فشلاً ذريعاً في وضع نظرية سياسية إسلامية، لأن النص الديني والتقاليد الروحانية والفقهية في الإسلام لا يمكن أن تؤسس أرضية أيديولوجية للفعل السياسي، ومن هنا انغلاق تجارب الإسلام السياسي في العدمية والعنف لتعويض هذا القصور الأصلي.

إن لأطروحة غانجبور ميزة كبرى، هي كونها تعترض على الرأي المنتشر في هذه الأيام حول غرابة الإسلام الجذرية عن التقليد اليهودي المسيحي نتيجة لهيمنة المقومات القانونية والسياسية على بنيته العقدية والتشريعية. حسب هذه الأطروحة الشائعة، يختلف الإسلام كلياً عن المسيحية التي ليس لها بناء قانوني ولا سياسي، ومن ثم فهي «ديانة الخروج من الدين» (ماكس فيبر ومارسل غوشيه)، وعن اليهودية التي يكتسي فيها مفهوم القانون بعداً أخلاقياً وقيمياً محضاً (لفيناس). ما يبيّنه غانجبور هو انتماء الإسلام إلى نفس التقليد التوحيدي، واختلافه في محدد واحد هو هذه العلاقة الملتبسة بين الديني والسياسي، التي لا يمكن اعتبارها أساس رؤية أوتوقراطية للسياسة.

ومن الواضح أن غانجبور تأثر في مقاربته الطريفة بأعمال هنري كوربان وتلميذه كرستيان جامبي، حول الروحانية الشيعية وما تفضي إليه من مقاربة للحكم تختلف نوعياً عن طبيعة الدولة القانونية السيادية الحديثة.

ما نختلف فيه جوهرياً مع غانجبور ليس في نظرية التباس الديني والسياسي في الإسلام، وإنما نمط تنزيلها في المسألة اللاهوتية السياسية التي استأثرت باهتمام فلاسفة الحداثة والتنوير من مفكري الغرب. وما يتعين التنبيه إليه هنا هو خلو التقليد الإسلامي من مكون لاهوتي بالمعنى الذي بلوره مفكرو المسيحية في العصر اللاتيني الأخير، أي عقيدة رسمية مقننة للاعتقاد في المسألة الإلهية وعلاقتها بالوضع الإنساني، وما يترتب على هذه العقيدة من ضبط لنمط التدبير والحكم في «مملكة الأرض».

إن وجود هذا اللاهوت هو الذي برّر تاريخياً الانتقال نحو الدولة المدنية السيادية، التي وإن كانت في جانب من جوانبها تكريساً للفصل الجذري بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، فهي من وجه آخر استيعاب واستبطان للمضمون العقلي والقيمي للنسق اللاهوتي.

أما في الإسلام، فإن خطاب الاعتقاد قد تركز على نظام الصفات الإلهية في صياغته الإشكالية المعقدة ما بين مطلب التوحيد المطلق ومفهوم القرب الذي تقتضيه الفاعلية الوجودية للخالق ورسالة التكليف البشري. وعلى الرغم من محاولات بعض الفلاسفة المتأثرين بنظرية «الملك الفيلسوف» اليونانية، فإن تأسيس أطروحة سياسية على المنطلقات والتصورات العقدية في الإسلام ما كان مستساغاً ولا متصوَّراً.

ومن ثم فإن فشل مشروع الإسلام السياسي ليس مرده إهمال البعد الروحاني السياسي المزدوج في الدين، وإنما التوجه لقلب المرجعية الإسلامية نفسها بتحويل العقدي إلى تصور أيديولوجي، وتحويل النسق الفقهي إلى مدونة قانونية للدولة.

منذ الخمسينيات بدأت تظهر في أدبيات الإسلام السياسي كتب خصائص ومقومات «التصور الإسلامي» لتعويض أفكار وآراء المتكلمين التي كانت محصورة في نظرية الصفات والأفعال، كما ظهرت في الفترة نفسها كتب البدائل «الإسلامية» عن القوانين «الوضعية» الحديثة.

الأمر إذن لا يتعلق بإشكالية أصلية في التقليد الإسلامي، بل بانحرافات تأويلية في قراءة وضبط النصوص المرجعية في هذا التقليد الذي لا ينسجم مع ثنائية اللاهوت والأيديولوجيا التي من السهل تتبع آثارها في مسار الفكر الأوروبي الحديث.

 

المصدر : الاتحاد الاماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى