مقالات و تحليلات

العبور إلى المستقبل وتجاوز الطائفية!/ حسن المصطفى

الكاتب / حسن المصطفى

كانت الابتسامة تعلو محياه، وهو على منصة التتويج، يقف بجوار وزير التسامح الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك، الذي سلم الدكتور محمد العيسى جائزة “الإمام الحسن بن علي للسلم”، في ديسمبر 2019، تقديرا للجهود التي يقوم بها الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي في تعزيز قيم الاعتدال والحوار.

الجائزة التي يرعاها وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد، وتقدم سنويا ضمن فعاليات “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة”، الذي يترأسه العلامة الشيخ عبد الله بن بيه، هذه الجائزة كان لها رمزيتها البليغة في منحها للعيسى، فهي بمثابة “التزامٌ وإِلزامٌ”.

 

التزامٌ بمنهج الحوار والتعدد واحترام الآخر، ونبذ العنف والكراهية والعنصرية، وإلزامٌ بهذه القِيم، وأهمية استمرار العمل على ترسيخها في المجتمعات.

تعزيز الاعتدال

الدكتور العيسى، وضمن برنامج “بالتي هي أحسن”، الذي تبثه مجموعة “MBC”، تحدث عن الخلاف المذهبي بين المسلمين الشيعة والسنة، معتبرا أنه “ليس بين الاعتدال السني والشيعي أي اعتداء أو صراع، المشكلة في الطائفية سواء أن كانت سنية أم شيعية”، مضيفا “الاعتدال السني والشيعي جميعهم إخوة، وهؤلاء الشيعة هم إخوتنا في الإسلام”.

العيسى يمتلك طرحه أهمية بالغة، فهو كان وزيرا سابقا للعدل في السعودية، ويشغل حاليا منصب الأمين العام لـ”رابطة العالم الإسلامي”؛ وهو أيضا أحد وجوه “السعودية الجديدة”، التي تعمل على ترسيخ الاعتدال، ونبذ العنف والطائفية، والتخفف من تركة تيارات الإسلام السياسي والحزبي، والتي كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان واضحا في نيته تحرير المجتمع من وصايتها، بعد أن اختطفت الخطاب الديني لعقود، وحولته من أداة تواصل وتراحم، إلى عصا شقاق وتنابذ!

فخ “التشابه والتطابق” الذي يقع فيه الكثير من دعاة “الوحدة الإسلامية”، نجح العيسى في تجاوزه. فهو أقر بأنه “نختلف معهم (أي الشيعة) في مسائل مختلفة.. لا ننكر ذلك، لكن هذا الاختلاف لا يمكن أن يصل إلى ما يحاول البعض النفخ فيه وضرب الجسد الإسلامي الواحد بعضه ببعض”، مبينا أن الاختلاف حصل في “الداخل السني، والداخل الشيعي”.

إن التنظير للتماثل الكلي، والحديث الرومانسي عن أن لا وجود لتباينات بين المذاهب، هو خطاب دعائي، تضليلي، لا يصنع مشاريع مشتركة، ولا يبني وعيا بين المؤمنين. لذا، فإن الإقرار بوجود تأويلات متعددة، وبحق كل طائفة في أن تكون لها سرديتها التاريخية، وآراءها العقدية والفقهية، أمر ضروري، لبناء الاحترام بين هذه الأفكار، التي عليها أن تتعايش وتتثاقف معرفيا، دون أن تهوِي في نزاعات لفظية أو مسلحة!

ما سبق، يقودنا إلى دور الدولة المدنية الحديثة، التي تضمن للجميع حق “المواطنة” الشاملة العادلة، بعيدا عن أي تفضيل على أساس الدين أو المذهب أو العرق أو الجندر. فالجميع مواطنون يحتكمون لـ”القانون” الذي يحترم الإنسان، ويقر حق جميع المكونات في التعبد والاعتقاد، وفق ما يؤمنون به.

الجهد الدولي

فبراير المنصرم، استقبل الملك سلمان بن عبد العزيز، الأمين العام لـ”مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات” الأستاذ فيصل بن معمر، وأعضاء مجلس الإدارة. حيث أكد العاهل السعودي على ” أهمية المركز ودوره في ترسيخ مبادئ الحوار والتعايش بين أتباع الأديان والثقافات، وتعزيز قيم الوسطية والاعتدال والتسامح، ومكافحة كل أشكال التطرف والإرهاب”، وفق الخبر الذي نشره موقع “العربية.نت”.

المركز الذي يتخذ من العاصمة النمساوية فيينا مقرا له، يقوم بجهود حثيثة في تدريب القيادات الروحية، من مختلف الأديان والدول، وتحديدا الكوادر الشابة، ومنحهم فرصة اللقاء والحوار ضمن جو علمي نقدي مفتوح، دون أي قيود أو خطوط حمراء، فالسؤال حق للجميع.

هذه النقاشات والبرامج العملية، قربت المجموعات المتباينة من بعضها البعض، ودفعتهم نحو فهم أكثر عمقا للأفكار التي كانوا يعتقدون ربما بخطئها أو سُخفها، إلا أنهم الآن يحترمونها، ويرون فيها عنصر قوة، تثري التنوع البشري.

لذا، فإن لقاء الملك سلمان بن عبد العزيز بأعضاء المركز، يتجاوز بعده التشريفي، ويوجه رسالة بأن السعودية مستمرة في الجهود الدولية الساعية لنشر ثقافة السلم والاحترام بين الأديان والثقافات، وأن “كايسيد” هو أحد الأذرع المهمة لهذا العمل الإنساني المشترك.

مجابهة الطائفية

“الخطر الأعظم الذي يهدد أمتنا الإسلامية أيضا، توظيف الطائفية المقيتة لتحقيق أطماع سياسية دنيوية”. هذا التحذير جاء على لسان الملك سلمان بن عبد العزيز، في مايو 2015، في كلمته الموجهة لـ”المجمع الفقهي الإسلامي”. وفي يونيو من ذات العام، عاد وأكد على أن السعودية “ماضية في النأي بالبلاد عن الفتن والقلاقل والاحتقانات الطائفية. مؤكدا رفضه التام للتصنيف المذهبي والطائفي، إدراكًا لمخاطره على اللحمة الوطنية”، بحسب ما نقلته صحيفة “الشرق الأوسط”.

المتابع يلحظ أن العاهل السعودي، معني بموضوع “مجابهة الطائفية”، والاشتغال على ذلك من خلال إصلاح منظومة العمل الديني، والمؤسسات الحكومية المعنية بهذا الشأن.

خلال الأشهر المنصرمة، تراجع كثيرا منسوب خطابات الكراهية والتكفير التي يبثها الدعاة المتشددون، سواء عبر منابر المساجد أو الدروس الفقهية المذاعة، أو ما ينشرونه في منصات التواصل الاجتماعي.

صحيح أن الإصلاح الديني ليس عملية سهلة، وتحتاج وقتاً طويلا، وعملا مستمرا، وهي من أنماط التغيير التدريجي، إلا أن وجود “إرادة ملكية” واضحة وراسخة، أشاع روحاً جمعية، باتت تعلي من الخطاب الوطني، قبالة الخطاب الطائفي، الذي وإن بقي مضمرا في نفوس بعض الشرائح، إلا أن كثيرا من المواطنين تحرروا من سطوته، وباتوا أكثر شجاعة على مواجهته. كما أن “دعاة الطائفية” لا يجرؤ كثير منهم الآن على التبشير بأفكارهم المتطرفة، لمعرفتهم أن ذلك سيعرضهم للمساءلة القانونية.

دور القيادات الروحية

نشرت صحيفة “صُبرة” الإلكترونية، تقريرا استعرضت فيه آراء عدد من علماء الدين السعوديين الشيعة، تعليقا على تصريحات الدكتور محمد العيسى، المؤيدة للتعاون بين “الاعتدال السني والشيعي”.

الشيخ حسين علي المصطفى، والشيخ جعفر الربح، وسواهما من علماء الدين الذين تحدثوا لـ”صُبرة”، جميعهم أثنوا على موقف العيسى، واعتبروه نابعا عن تفكير مسؤول وعقلاني، يدفع نحو التخفيف من حدة التوترات الطائفية التي تشهدها المنطقة.

ردة الفعل الإيجابية لم تكن مقصورة على أوساط المسلمين الشيعة في السعودية، الذين تداولوا “فيديو العيسى” بكثافة عبر هواتفهم، بل تعدتها لنظرائهم في الخليج والعراق. ما يدل على أن الرأي العام مُتقبلٌ، بل متعطشٌ للطرح الذي يقدم الإنسان ويحترمه.

إن الجمهور العام في الخليج، سئم الخطابات المتشددة، وبات أكثر رغبة في الاستقرار والتنمية والبعد عن المشاحنات الطائفية. من هنا، فإن جهود القيادات الدينية أمثال الدكتور محمد العيسى، أو المرجعيات الروحية كآية الله السيد علي السيستاني والعلامة الشيخ عبد الله بن بيه، سيكون لها أثر كبير على المؤمنين في حال تظافرها وتعاونها، وستساهم في خلق رأي عام واسع، داعم للتعايش والتعددية.

ما نحن بحاجة له، هو تعزيز العمل المشترك بين هذه القيادات والمرجعيات، ومزيد من الخطابات المؤنسنة، وتحويل ذلك إلى جهد مؤسساتي لا فردي، وأنظمة وقوانين حديثة، تجعل العبور إلى التنمية والمستقبل أكثر يسرا، وأقل شقاء.

 

المصدر 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى