فضاء الرأيقضايا المجتمع

الفضاء السمعي البصري مكسب وطني قبل أن يكون تجاري ../ الشيخ المهدي النجاشي

الشيخ المهدي النجاشي / كاتب موريتاني

إن الحديث عن تجربة الفضاء السمعي البصري في موريتانيا و في ظرفية يتعرض فيها للإغلاق المتعمد من طرف شركة البث الإذاعي والتلفزي  قد يراه البعض  من زوايا مختلفة وإن كنت أراه حدثا مناسبا لتقييم تجربة خمسة أعوام من الحرية على مستويات متعددة ومتنوعة إذا ما وضعنا هذه التجربة في سياقها الزمكاني الذي ولدت فيه والتحولات العربية والإقليمية آنذاك , وهي تحولات استطاعت فيها موريتانيا خوض غمار الحرية غير المقيدة  إلا بما يعرف اصطلاحا بالخطوط الحمر إن صح ذلك مجازا .

 ففي وقت كانت فيه معظم البلدان العربية تعيش ربيعا عربيا أو حريقا  عربيا كما تحلو لي التسمية  وكانت فيه بعض البلدان الإقليمية تشهد انهيارا أمنيا كبيرا , خاض الموريتانيون ربيعا ناعما ولأول مرة في تاريخ البلاد إذ تم الترخيص لخمس قنوات تلفزيونية  وخمس إذاعات مستقلة  كانت كفيلة بميلاد صحافة جادة وأولى لبنات التعددية والديمقراطية وحرية التعبير …

هذه التجربة المعلقة الآن مابين المواصلة في الإغلاق او الإفراج عنها  بخيارات مفتوحة قد تكون مؤقتة أو أبدية ,  لاشك أنها تستحق منا جميعا تقيمها والتأمل في كل المراحل والتطورات التي شهدتها أو سايرتها  سواء من حيث التضحيات و المكتسبات التي حققتها وكذا الجهود التي  بذلت فيها والقوانين التي صاحبتها بل , حتى الطاقات التي جسدتها والتنظير والتأطير الذي واكبها منذ النشأة وما قبل الدخول فيها بشكل عملي فكلنا يعرف أن هناك منظرون وعمداء أسسو لهذه التجربة الفريدة من تاريخ الجمهورية وعضوا عليها بالنواجذ إيمانا منهم بالحرية والصحافة والوطن ,  فماهو التقييم وماهي المكتسبات وماهي التضحيات والنواقص  على الأقل من زاويتي الخاصة   ؟

قد لا يخفى علينا جميعا أن تجربة الفضاء السمعي البصري لولا إرادة سياسية تؤمن بحرية الصحافة كجزء من التعددية وإحدى اهم دعائم الديمقراطية لما كتب لها أن تكون , خصوصا انها جاءت في ظرفية خاصة وفي ظروف استثنائية من تاريخ البلاد التي  عانت فيها الصحافة  منذ نشأتها من  التنكيل والمصادرة والحبس والتمييع فكانت الإرادة السياسية صادقة فولدت التجربة وعاشت خمس سنوات دون مقص الرقابة ولا التضييق في انتقال سلس من زمان الجريدة إلى الفضاء السمعي البصري الذي كان حلما لدى الجميع .

هذ التحول في مسار الصحافة الموريتانية استقطبه رجال المال والأعمال ( الممولين )  فضخوا مئات الملايين في مجال غير ربحي أصلا في موريتانيا ,  كنوع من احتضان هذه التجربة والمساهمة في تطبيقها على أرض الواقع رغم غياب الأرضية الملائمة للاستثمار وانعدام  سوق الإشهار فتكبدوا خسائر كبيرة بلغة أهل المال

لكن التاريخ سيكتب لهم أنهم شاركوا في تعزيز الديمقراطية و توفير منابر ساهمت بشكل كبير في الوعي وتعزيز اللحمة الوطنية وحرية التعبير بل حتى امتصاص البطالة بتشغيل مئات الصحفيين والفنيين من أبناء وطنهم على مدى خمسة أعوام رغم تفاوت المؤسسات في ذلك . 

ورغم هشاشة العلاقة ما بين العامل  وهذه المؤسسات من الناحية القانونية فإن المئات من الصحفيين والفنيين الموريتانيين استطاعوا مواكبة هذ الفضاء السمعي البصري منذ انطلاقته فخلقوا بجهودهم إعلاما وطنيا قابلا للتطور ومواكبة القضايا الوطنية والإنسانية الكبرى رغم غياب التكوين ونقص التجربة في الغالب الأعم إلا من حالات نادرة , وهي تضحيات وجهود إذا ما قارناها بإعلام بعض البلدان المجاورة التي شهدت تطورات نسبية  في مجال الصحافة  , تبقى تجربة  هؤلاء مقبولة وجهدا كبيرا ينضاف لمحاسن الفضاء السمعي البصري بموريتانيا التي حررت فضائها في غياب أي قسم للإعلام  بالبلاد آنذاك ,  ورغم ذلك نجحت تجارب وتميزت أسماء ومؤسسات  ما كان لها أن تكون لولا هذه التجارب النادرة   التي نظر لها إعلاميون وعمداء سهروا على أن ينجحوا في خلق جيل من الصحافة يؤمن بالمهنة  ويخدم من خلالها الحقيقة كاملة دون رتوش . وهؤلاء طبعا هم جنود الخفاء الذين يكتوون بواقع الصحافة ويأملون بنجاح تجربة الفضاء السمعي البصري الذي  كثيرا ما ضحوا من أجل نجاحه كمكسب وطني باقي للأجيال القادمة  .

 فهل هناك أنبل وأسمى من الدفاع عن الحرية وخلق صحافة جادة تؤمن بموريتانيا أولا ؟ 

 لهؤلاء أقول أيضا  التاريخ سيذكركم  ؟

إن الاعتراف بالنجاحات والجهود التي قدمت من أجل نجاح تجربة الفضاء السمعي البصري من عدة أطراف على مدى خمس سنوات لا يجب أن يكون على حساب تلك الإخفاقات التي وقعت فيها هذه التجربة الرائدة ولعل التعاطي الملاحظ مع صمت هذه المنابر الإعلامية التي خلقت وعيا سياسيا وثقافيا وفكريا أحد أهم تلك الانتكاسات التي وقعت فيها هذه القنوات فكيف ولماذا ؟

لقد عملت معظم هذه القنوات منذ انطلاقتها على اتاحة الفرصة لجميع شركاء المشهد الوطني بكل موضوعية وإنصاف مساهمة منها في خلق نخبة على مستوى التطلعات والتحديات فظهروا كالوهم لا يقدرون على الكلام في موسم الصمت فجاء موقفهم المخجل المذل اتجاه هذه القنوات التي جعلت منهم شيئا مذكورا , وهو الموقف الذي يعكس بجلاء عجز نخبة الصحفيين في صناعة رأي وطني يكون سندا للحق وناطقا باسم الشعب الذي بات يدمن الحرية ويرفض التراجع عنها وأثبت ذلك عبر اتصالاته وتدوينا ته على وسائل التواصل وهي الخطوة التي وقفت في وجه تمييع بعض القوى السياسية لنازلة الفضاء السمعي البصري سواء  في الأغلبية والمعارضة التي يشجع معظمها للأسف الاستمرار في الإغلاق كرها منهم للحرية التي عادة ما تكشف صنفهم من خفافيش الظلام التي لا تريد خيرا لهذ الوطن .

كما أن تعاطي الهيئات والروابط والنقابات والتجمعات الصحفية مع أزمة الفضاء السمعي البصري كشفت مستوى الهشاشة التي تعيشها العمل النقابي في حقل الصحافة الذي كان من المفترض أن تكون هذه القضية أول اهتماماته بدل التناطح والتصادم على المبالغ المتواضعة التي تمنح للصحافة وهي المفارقة العجيبة التي باتت تثير الانتباه والسخرية معا عندما تفضل الصحافة بطونها على حساب الحرية وواقعها الذي أصبح عائقه الوحيد الصحافة نفسها وليست القوانين المنظمة ولا الجهات المسئولة التي رفعت يدها عن رقابة الحقل  محملة تبعات الإخفاقات للجسم الصحفي الذي يبدو للأسف هش البنية ومشتتة الاهتمامات , فلم يكن صمت تلك التجمعات مجتمعة إلا وصمة عار في جبين تاريخها .

إن نازلة الفضاء السمعي البصري اليوم ليست مسؤولية الممولين فحسب وإنما هي مسؤولية مشتركة يجب أن تكون الحكومة حاضرة فيها وبشكل أقوى خصوصا من الناحية التنظيمية والتأطيرية خصوصا أن هذه التجربة ما تزال في مرحلة الفطام وتحتاج الرعاية والاحتضان كيما تنضج وتنمو ,  فريعها لكل الموريتانيين وكل فرقاء المشهد الوطني ومكسب وطني ينضاف  لأرشيف رئيس الجمهورية ودعامة باقية إلى الأبد للجمهورية الإسلامية الموريتانية الأولى عربيا في حرية الصحافة منذ تحرير هذه الفضائيات , مما يعني أن الفضاء السمعي البصري مكسب وطني قبل أن يكون تجاري .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى