الأخبارمقالات و تحليلات

القضايا المهمّة.. والقضية الكبرى\ سلطان البركاني الكاتب والصحفي الجزائري في صحيفة الشروق

  • شيرين أبو عاقلة، مراسلة قناة الجزيرة

    صبيحةَ يوم الأربعاء الموافق للحادي عشر من مايو الجاري، أقدم الصهاينة المحتلّون على قتل صحفية تعمل لصالح قناة الجزيرة، بكلّ وحشية وبدم بارد.. في عمل إجراميّ ليس جديدا في حقّ قوم مردوا على الاستهانة بالدّماء؛ فإذا كان أجدادهم قتلوا الأنبياء والصّالحين، فكيف لا يقتل الأحفاد المصلحين والإعلاميين والصحفيين ومن يسعون لتصوير وتوثيق وعرض الحقيقة.. قتلت الصحفية غدرا، في مشهد مروّع، وقد كان يسعنا نحن المسلمين أن نتعاطف معها ونثني على جرأتها وشجاعتها ونُكْبر ثباتها الذي لم نره عند بعض رجال أمّتنا، مع كلّ أسف، ونلزم مع ذلك حدود ديننا في التعامل مع ما هو من شؤون الآخرة.

مهما كانت الصحفية نصرانية وغير مسلمة، فما دامت معنا في نصرة قضية القدس وفلسطين، فواجب علينا -أخلاقيا- أن نحيّي فيها موقفها، ونلعن عدوّنا وعدوّها، ونسعى في استغلال الحادثة التي لم تكن الأولى من نوعها لنقيم حجّة أخرى على العالم الأعور، ونعزّي أسرة الصحفية وأهل دينها بما يعزّى به غير المسلمين من الكلام الطيب.. لكنّ الأمر تجاوز كلّ هذا، إلى حدّ الترحّم على المغدورة، ووصل ببعض المسلمين إلى حدّ إنزالها منازل الشّهداء وسؤال الله لها الجنّة، فيما يبدو توجّها مخطّطا له، على طريق التبشير بالدّين العالمي الجديد الذي يلغي الفوارق بين الأديان ويجعلها على قدم المساواة!
لقد طغت الحماسة على كثير ممّن تلقّفوا مسعى الترحّم على المغدورة من دون تثبّت، حتّى بلغ بهم الأمر إلى حدّ تسفيه إخوانهم الذين أرادوا لفت انتباههم إلى ضرورة الوقوف عند حدود الشّرع في مسألة لها علاقة بالدّار الآخرة، ويفترض أن يرجَع فيها إلى المحكم من كتاب الأمّة الخالد لمعرفة الموقف الفصل، لكنّ المتحمّسين أبوا إلا الإصرار على الخطأ ومخالفة نصوص صريحة في كتاب الله المبين، وجدوا من يؤوّل لهم كثيرا منها لتوافق المتشابه!
لقد أبى هؤلاء المتحمّسون الإنصات لصوت العقل الذي دعاهم إلى وجوب التّفريق في مثل هذه القضايا بين الحقّ الدنيويّ في أن يشكَر المحسن ويعلى ذكره بغضّ النّظر عن دينه، وبين الحقّ الأخروي الذي جعل الله له قانونا آخر يختلف عن قانون الدّنيا.. الترحم على الميت قضية لا تتعلّق بالدنيا، وإنّما تتعلّق بالآخرة، فيفترض أن يرجع فيها إلى الشرع ولا تُخضع للعواطف والأمزجة، ونصوص الشّرع تؤكّد على أنّه لا يجوز الترحم على من عُلم أنه مات على غير ملة الإسلام، لأنّ الله استثناه من أن تناله رحمته في الآخرة: قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (الأعراف).
الصحفية النصرانية كانت تريد الدّنيا وشرف الدّنيا لها ولقضيتها، وقد كانت ملء سمع الإعلام وبصره، وبلغت شهرتها المشارق والمغارب، ودوّن اسمها على صفحات التاريخ، وعجّل لها ثوابها في الدّنيا.. أمّا جزاء الآخرة فله موازينه المختلفة؛ فهو يرتبط بدين الإنسان وعقيدته، وأساسه كلمة “لا إله إلا الله”، والصحفية ومن هم على دينها يعتقدون أنّ الله ثالث ثلاثة وينسبون إليه الولد سبحانه، والله يقول: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾.
اليهود الصهاينة المحتلّون هم ألدّ أعدائنا، ومن أعاننا عليهم شكرنا صنيعه وأعلينا ذكره وأحسنّا إليه في أمور الدّنيا، ولو كان يهوديا أو نصرانيا أو بوذيا أو ملحدا.. أمّا في أمور الآخرة فالحكم لله العدل سبحانه.
أبو طالب عمّ النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- عاش يحوط الحبيب المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- ويذود عنه، وتحمّل في سبيل ذلك أذى كثيرا، وحينما حضرته الوفاة، لم يتركه النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- يموت على ما هو عليه من دين الآباء ولم يقل إنّ نصرته لدين الحقّ تكفيه، بل أتاه ووقف عند رأسه وقال: “يا عمّاه، قل لا إله إلا الله، كلمة أشفع لك بها يوم القيامة”، فقال أبو طالب: “يا ابن أخي لولا أن تعيّرني قريش لأقررت عينيك بها”، أبى أن يترك دين الآباء، فأنزل الله سبحانه في حقّه قوله -جلّ وعلا-: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين﴾، ومنع خليله المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- والمؤمنين معه أن يستغفروا لمن ماتوا على الشّرك ولو كانوا أولي قربى، فقال جلّ من قائل: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾.. أبو طالب عمّ نبيّنا، ولا نذكره إلا بفعله الحسن، وتمنّينا من خالص قلوبنا لو أقرّ عين حبيبنا وأعيننا من بعده بنطق الشّهادتين، لكنّه أبى، فأمرُه إلى الله.
طبيعيّ أن يتعاطف المسلم مع من قدّموا خدمات لدين الله الحقّ ومع من كانوا على درجة عالية من الأخلاق، وطبيعيّ أن يحزن ويبكي لوفاتهم، بل وطبيعيّ أن يقوم احتراما لجنازاتهم، لكن أن يَطلب لهم الرّحمة في الآخرة ويسأل لهم المغفرة والجنّة، فهذا اعتداء في الدّعاء، لأنّ هذا الباب

قد أغلقه الحقّ سبحانه بقضاء لا يتبدّل، حينما قال جلّ وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾.
تعاطَف نبيّ الله نوح -عليه السّلام- مع ابنه، ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾، فماذا كان الردّ؟ هل جامله الحقّ -سبحانه- لأنّه نبيّ؟ كلاّ، قال جلّ وعلا: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
تعاطَفَ نبيّ الله إبراهيم -عليه السّلام- مع أبيه آزر، فاستغفر له، فلمّا نهاه الله عاد فتبرّأ منه.. النبيّ الخاتم -عليه الصّلاة والسّلام- رغم ما عاناه مع المشركين والمنافقين، ظلّ يحمل في قلبه أملا في أن يُغفر لهم، حتّى نهاه الله عن الاستغفار لهم، وقال له: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.. بل قد ذكر الحقّ -سبحانه- 18 نبيا من أنبيائه عليهم السّلام، وتحدّث عن هدايته لهم، ثمّ قال سبحانه: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.. وقال في موضع آخر مخاطبا أكرم خلقه عليه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزّمر: 65).. فلا إله إلا الله، ما أعظمك يا الله وأعظم حقّك! الأنبياء -عليهم السّلام- لو أشركوا -وحاشاهم- لأحبطت أعمالهم، كيف بغيرهم؟.. إنّها قضية مفصلية فاصلة مفصول فيها لا مجملة فيها لأحد.
في الصحيحين عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنّها سألت النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عن رجل من أهل الجاهلية كان على درجة عالية من الإنسانية والأخلاق الحميدة، فقالت: يا رسول اللّه! ابن جدعان كان في الجاهليّة يصل الرّحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعُه؟ قال: “لا ينفعه. إنّه لم يقل يوما: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدّين”.
هناك قضايا كثيرة مهمّة في حياتنا، وقضية فلسطين من أهمّها، ينبغي أن نعمل لها ليل نهار ويقدّم كلّ منّا ما يستطيع من مال وجهد ويتكلّم ويكتب ويناضل لأجل أن يتحرّر الأقصى من براثن الصّهاينة، لكن ينبغي ألا ننسى أنّ هناك قضية أهمّ من كلّ القضايا، هي قضية الوجود، قضية الكون، إنّها قضية “لا إله إلا الله” التي قامت عليها السّماوات والأرض، ينبغي ألا نستهين بها وننساها أبدا؛ فبقدر اهتمامنا بها ثمّ بالحرص على ترتيب أولوياتنا بعدها على ضوئها، يكون التّوفيق والنّصر حليفنا في الدّنيا، وتكون النّجاة أقرب إلينا في الآخرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى