الأخبارالصدى الثقافي

المكان.. جغرافيا الحنين والذكريات / هزاع أبو الريش

تمثل الأمكنة حضوراً مهماً، وتأثيراً كبيراً في حياة الإنسان، ويعد الارتباط بالمكان عنواناً للوفاء والانتماء وبالذكريات، ويزداد حضور المكان تأثيراً لدى الأدباء والفنانين، حيث ينعكس في أعمالهم بشتى الصور، وكما يقال: «حين تصل لأول مرة لمكانٍ ما، توقف قليلاً واصغِ إلى نبض قلبك وصدى المكان، ستجد هناك عميقاً في ذاتك شيئاً ما، سوف تحمل جزءاً من هذا المكان وسوف تترك جزءاً من ذاتك به». كل تلك المشاعر تنسجم مع الأمكنة لأنها جزء من المكون النفسي والعاطفي للإنسان. ويبقى المكان متصلاً ما بين الذاكرة والقلب، ويظل الإنسان يجوب بقاع الأرض ورقاعها بحثاً عن المكان الأقرب إلى نفسه.

يقول عبد الله ماجد آل علي، المدير التنفيذي لقطاع دار الكتب في دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي: «مثّل المكان – في المنظومة الوجدانية الإنسانية، الذاكرة المحببة أو غير المحببة وفقاً للحالة التي عاشها الإنسان في الأمكنة. بينما كرس الشعراء والأدباء القيمة العليا للمكان بغض النظر عن السلبية والإيجابية؛ لأنه تحول عندهم إلى خزان للذاكرة ومحطات للحياة بفرحها وحزنها. وقد تحول المكان عند بعضهم إلى حالة من التطابق والتماهي معهم ومع ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم». مضيفاً، ومهما حمل المكان من أسماء مثل البلد والوطن والبيت والدار، تبقى الحميمية التي تحفر في وجدان الإنسان لترسم معالم فرحه أو ألمه، مرتبطة بالمكان في تضاريسه كافة. ويبقى الأشخاص الذين نقابلهم في الأمكنة وما يرتبط بهم من أحداث، هم الفاعل الأقوى في تعلقنا بالمكان، فالإنسان حين يعود ليزور البيت أو الحي الذي ولد فيه وتركه منذ سنين طويلة، إنما يعود ليرى فيه جدّيه وأبويه، والأطفال الذين كان يلعب معهم، يتخيلهم وكأنهم لا يزالون يتحركون في تلك الأمكنة، يرى ابتسامتهم، يشم روائحهم، وروائح طعامهم، يتذكر كل لحظات السعادة والحزن التي مرت بهم. وربما كان من بين أسرار تعلق الإنسان بالمكان على هذا النحو الكبير أن الإنسان مخلوق من تراب، والمكان مجبول به.

وأشار الكاتب عبد الله السبب، إلى أن الإنسان كائن المكان، انتماءً ونمواً وبناءً؛ والمكان مكمن الابتكار والإبداع بما هو حاجة بشرية ملحة، وملح حياة للأجيال المتعاقبة في المثول في قلب الجغرافيا والخرائط الأرضية والذهنية على السواء. فالإنسان ابن بيئته، وحنينه دائم المداهمة على خاطره، ودائم الحضور في ذاكرته وفي مشاعره التي تنتابه في كل وقت وحين، وحين يستحضر أمكنته الخاصة، أمكنة الطفولة مثلاً، في الحارات القديمة (الفرجان)، بما تختزنه من حكايات وبطولات ورياضات تراثية، أو أمكنة مجتمعية مختلفة الهوى والهُوية، كالمدارس مثلاً على اختلاف أزمنتها ومراحلها، بما تعج به من أسماء بشرية مارست حضورها الحياتي هناك؛ وكذلك الأندية الرياضية بما تمثله من كونها بيئات حاضنة للقدرات والطاقات الشبابية، ومتنفساً اجتماعياً لأبناء المجتمع، ومراكز ثقافية تستوعب المواهب من الأبناء بما لديهم من مَلَكات إبداعية كامنة تنتظر من ينبشها وبمسطحات اللثام عن مكامنها، كل ذلك وأكثر من أمكنة ومن علاقات تربط الإنسان بالأرض جذوراً تتشبث بها، وأحلاماً تنمو يوماً بعد يوم لتحلق في الفضاء الرحب تطلعاً لمعانقة السماء ليكون شيئاً يُذكر في الحياة بما يُخلّد ذكره ويُنعش ذاكرة الأجيال المتعاقبة في المثول على مر الأزمنة والأمكنة. مختتماً حديثه، إذن؛ للأمكنة سحرها في النفس البشرية المفطورة على حب الأرض ببيئاتها المختلفة، البحرية والبرية والسهلية، وللأمكنة قواها الخفية في دفع الإنسان إلى الانطلاق في الفضاء الرحب تطلعاً لأن يكون شيئاً حقيقياً يُشار إليه بالبنان وفقد المجالات التي يستطيع من خلال تحقيق ذاته وإثبات وجوده الفردي في الوجود البشري العام؛ على النطاق الأُسري الصغير، أو على النطاق المجتمعي الأوسع المتدرج في التوزع الجغرافي وفق الخرائط الأرضية والذهنية على السواء.

وتحدث الكاتب الشاب وليد المرزوقي، يخطىء من يعتقد أن الأمكنة ليس لها علاقة بالإنسان وراحته. إذاً كيف نشعر نحن بارتباطنا بالأمكنة روحياً وثقافياً ووجدانياً؟ فالإمكنة عبارة عن أرواح، ولذلك نشعر بالوهلة الأولى عند زيارتنا لمدينة معينه أو عاصمة نزورها لأول مرة أننا نشعر بالراحة فيها وبالقرب منها أيضاً. مؤكداً أن كل تلك المشاعر التي نشعر بها وتجوب في داخلنا ليست إلا تشابه ما يسكن في داخلنا، وما يسكن في المدينة أو المكان نفسه، فالروح واحدة لا تتجزأ.

وتابع المرزوقي: فلا غرابة أن يستلهم بعض الكتاب من بعض الأمكنة ليخرجوا بأروع الأعمال والإبداعات الأدبية الخالدة. لافتاً، فهذا نجيب محفوظ كان لا يكتب إلا بين أزقة وقهاوي الحسين والجمالية في القاهرة، والموسيقيون العالميون لم يخرجوا بإبداعاتهم إلا بين روح الطبيعة التي استلهموا منها الجمال والروح، سواء من البحر أو النهر أو الغابات أو المناظر الأخرى ذات الطبيعة الساحرة والخلابة.

 

المصدر : الاتحاد الاماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى