مقالات و تحليلات

تجاوز الادعاء بالتفوق والطهرانية / حسن المصطفى

حسن المصطفى
كاتب وباحث سعودي

كثيرٌ ما يسعى أصحاب العقائد لإقناع الناس بأفكارهم الخاصة، وتكوين مجاميع من الأتباع، يتشربون تعاليم “صافية”، تلتزم أدبيات كل أدلوجة، وأحكامها الصلبة، التي تقاوم التغيير.

 

هذه الصرامة نجدها في المجتمعات العربية عند التيارات الإسلامية المنغلقة، بشكل أكثر وضوحا من سواها. خصوصا أن هذه المجاميع، تبتني على “المقدس”، ما يسهل عليها الدفاع عن الجمود، بوصفه ذوداً عن الدين النقي، المستلُ من تعاليم السلف الصالح.

 

هذه الوثوقية ترفض الشراكة مع الآخر، أو بناء تفاهمات معه، أو تنمية نقاط التلاقي بين الأطراف المتعددة. لأن المتشددين يعتقدون أن الشراكة ما هي إلا تنازل عن الحق، وتماهي مع مواقف مائعة، هي من بنات الفكر الغربي!.

 

تلك الريبة المرضية، لا نجد أي أثر لها في “ميثاق حلف الفضول الجديد”، الذي أصدره “منتدى تعزيز السلم”، في دورته السادسة، التي عقدت في العاصمة الإماراتية أبو ظبي.

 

الميثاق جاء على النقيض تماما من الفكر الأحادي، فهو بدء بديباجته أكد على مفهوم “الشراكة” بين أتباع الأديان الإبراهيمية وبقية البشر، جاعلا أساس ذلك “الحقوق الإنسانية الفطرية التي يتمتع بها كل البشر”.

 

الشراكة تلغي التفاضل بين الشركاء، بل، تجعلهم على قدم المساواة، وتحفظ للجميع ذات الحقوق. وهي بذلك تعلي من قيمة الإنسان في ذاته، لا في دينه ومعتقده، الذي هو خيار فردي، يمارس دون إكراهات.

 

كثير من المواثيق التي يصدرها الإسلاميون، تجدها ترتاب من أن تشير إلى “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”. وهي إن ذكرته، تستحضره بطريقة نفعية، فيما يخدم أفكارها، ولا تنسى أن تبدي تحفظها على بعض بنوده التي تراها تتعارض وقيمها. أي أنها تتعامل معه بشكل انتقائي، مصلحي!.

 

“حلف الفضول الجديد”، أشار إلى “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، بوصفه إحدى الوثائق الرئيسة التي اعتمد عليها. أي أنه مرجع أساسي، جنبا إلى جنب مع “حلف الفضول” التاريخي (العام السابع الميلادي).. وهو بذلك لا يجعل مرجعيته دينية أو إلهية صرفة، وإنما بشرية أيضا.

 

أهمية “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” أنه وثيقة مدنية، تضع علائم واضحة لحقوق كل فرد، بعيدا عن دينية وعرقه ولونه وجنسه. وهي فروقات محل نقاش وعدم تسليم لدى جمهور واسع من فقهاء المسلمين ودعاتهم.

 

التصالح الفكري بين “حلف الفضول” و”حقوق الإنسان” ينبئ عن وعي معرفي متقدم لدى من اشتغلوا على صياغة الوثيقة، وإيمانهم أن “السلم في المجتمعات” لا يمكن تحقيقه دون المساواة بين البشر كافة، ونبذ جميع أشكال التمييز بينهم. وهو ما ورد في الفصل الثالث، المادة الرابعة، من “الحلف”.

 

تحت عنوان “مبدأ حرية الاختيار وحرية ممارسة الدين”، أشار “الميثاق” إلى أنه “لا إكراه في الدين”، وأنه “على الدولة حماية الحرية الدينية، بما في ذلك حرية التنوع الديني، بما يضمن العدل والمساواة بين مختلف فئات المجتمع”.

 

البند أعلاه مؤداه أن الفرد حر، في إيمانه من عدمه. وأن هذه الحرية ليست خيارا محترما وحسب، بل على الدولة أن تحمي ذلك بقوة القانون.

 

الإشارة لـ”سيادة القانون”، ودور الدولة في حماية “الحرية” تكررت في أكثر من موضع. حيث جاء “احترام الآراء المختلفة يجب حمايته بالقانون”.

 

الدولة المشار إليها في النصوص، لا يتم استحضارها لتكون حصن “الشريعة”، أو مثال “الخلافة” التي دائما ما يرنوا لها الإسلاميون في مخيالهم. وإنما هي الدولة المحايدة، التي لا تنحاز إلى دين على حساب آخر، ولا تفضل مذهبا وتجعله محل حظوتها. وبمعنى آخر، هي دولة بشرية، لا دين لها، ولكنها ليست على تضاد مع الدين أو طاردة للمؤمنين، بل على العكس، توفر لهم بيئة صحية وقانونية يمارسون فيها شعائرهم دون أي نقصان أو تمييز.

 

وبما أن حرية المعتقد والفكر، مبدأ أساسي في “الميثاق”، فإنه من الطبيعي أن تحض بنوده على “حماية حقوق الأقليات”، حيث ورد ما نصه “للأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو دينية أو لغوية الحق في العيش، بلا اضطهاد ديني أو سياسي أو عنصري، بل لهم الحق في أن يعيشوا كمواطنين كاملي ومتساوي المواطنة في مجتمعاتهم”.

 

إن حماية حق الأقلية، هو مبدأ أساسي تقوم عليه الديموقراطيات الحديثة. لأن الأغلبية التي تفرزها صناديق الاقتراع، سيكون لها الحق في الحكم، وإدارة شأن الدولة. إلا أن ذلك لا يخولها أن تستبد، أو تنتهك الدستور، أو تسلب الأقليات حقوقهم باسم “السلطة”.

 

“حلف الفضول الجديد” وفي تأكيده على “المواطنة المتساوية”، يتجاوز فكرة “أهل الذمة”، أو “المستأمنين”، إلى تكريس “المواطنة” كأساس للحق.

 

ليس من السهل أن يتخلى الفرد أو تتنازل المؤسسة عن امتيازاتها التاريخية، وتتخفف من كل ادعاءات الطهرانية والتفوق والقوة، وتذهب إلى الآخر، لتتعرف عليه أولا، وتحاوره ثانيا، وتبني شراكات مستدامة معه، وترسخ هذه التفاهمات بمواثيق دولية يلتزم بها الجميع، ويعملون على تحقيقها، والبحث عن شركاء جدد معهم، يؤمنون بذات القيم الإنسانية، وينبذون العنف والإرهاب والكراهية.

 

قد يتجادل البعض في عدد من الجُملِ الواردة في “الحلف”، وهو النقاش الذي سيفتح الأبواب على أفكار متنوعة. إلا أن الأهم، أن يتحلى الفقهاء المسلمون بذات الشجاعة التي تمثلها الفريق الذي صاغ “ميثاق حلف الفضول الجديد”، وينبذون عنهم إكراهات التقاليد الاجتماعية وضغوطات السياسة وأحزابها، وأن يقوموا بأدوار حقيقة صادقة نحو ترسيخ السلام في الشرق الأوسط والعالم.

 

المصدر 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى