مقالات و تحليلات

ثنائية اليمين واليسار وتحولات الديمقراطية الأوروبية / د. السيد ولد أباه

د. السيد ولد أباه / أكاديمي موريتاني

من النتائج الظاهرة للانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة انهيار الكتلتين الكبيرتين اللتين توزعتا الحياة السياسية في البلدان الديمقراطية الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: كتلة اليمين الليبرالي وكالة اليسار الوسط، في حين سجل تصاعد حركات اليمين المتطرف والتنظيمات الشعبوية غير الليبرالية واليسار الراديكالي.

هل يشكل هذا التحول منعرجاً نوعياً في مسار الديمقراطية الليبرالية التي هي المكسب الأساسي لثلاثة قرون من التنوير والحداثة السياسية والمجتمعية؟ أم أنه مجرد مظهر لأزمة عابرة تتعلق بطبيعة التحديات الناجمة عن اختلالات العولمة الاقتصادية من حيث طبيعة العمل السياسي وقنواته التنظيمية؟

الجدل محتدم في أيامنا بين المفكرين السياسيين في أوروبا حول هذا الإشكال المحوري، ففي حين يذهب البعض إلى أن العلاقة بين التنظيم الإجرائي الحر للتعددية المجتمعية وطبيعة الخيارات الليبرالية يميناً ويساراً ليست ضرورية ولا عضوية بل هي حالة عرضية متجاوزة، ومن هنا بروز أنواع جديدة من الديمقراطيات غير الليبرالية في أوروبا وغيرها من بلدان العالم.. يرى البعض الآخر أن الفكرة الديمقراطية الحديثة لا يمكن فصلها عن القيم والمثل الليبرالية وإلا تحولت الإجراءات التنظيمية للتعددية إلى مجرد أدوات صورية لشرعنة وتوطيد الهيمنة القائمة والتحكم السلطوي.

والواقع أن للمشكل في دلالته الراهنة أبعاد ثلاثة يتعين استكشافها:

أما البعد الأول فيتعلق بتركيبة الحقل السياسي الذي تنتظم فيه العملية الديمقراطية. فغني عن البيان أن التجارب الديمقراطية الأولى تمت داخل مجتمعات تتحكم فيها دولة مركزية كاملة السيادة، تنعقد لها المواطنة في أضيق معانيها القانونية، ومن هنا اتسم النقاش العمومي داخل الحقل السياسي القائم حول رهانات مجتمعية محلية واضحة لا تأثير قوي فيها للأبعاد الخارجية. أما اليوم فمن البديهي أنه لا يمكن الفصل بين اعتبارات الحياة السياسية الداخلية والمعطيات الكونية التي لها تأثير حاسم في أدق تفصيلات الوضع الداخلي المحلي، بقدر ما أن تراجع مفهوم السيادة الوطنية وتقلص إمكانات الدولة في مسار صنع القرار أنجر عنهما تغير نوعي في مفهوم المواطنة نفسه من أبرز تجلياته الجدل الواسع المتفجر حول ترتيب العلاقة بين المواطنة السيادية المحلية والمواطنة الإقليمية الأوروبية.

أما البعد الثاني فيتعلق بالتركيبة المجتمعية للبلدان الصناعية الأوروبية التي ارتبطت بنظام قسمة العمل المتولد عن الثورة التقنية الحديثة الأولى، ومن آثاره الخريطة الطبقية التي شكلت مرجعية المنظومة الديمقراطية في آلياتها الأساسية المتمحورة حول قسمة اليمين واليسار المعبِّرة عن موقعين اجتماعيين وسياسيين متصادمين: القوة الاجتماعية المحافظة التي هي عماد الحركية الاقتصادية والاستقرار السياسي، والقوة المتمردة الدافعة لعملية التغيير. إن هذا الحراك الاجتماعي هو الذي فرض آليات تنظيم ومشاركة سياسية فاعلة أخذت شكل القوالب الحزبية والانتخابات التمثيلية التي هي في أصلها أدوات مرفوضة من التيارات الثورية الراديكالية باسم الإرادة الشعبية المنسجمة الواحدة. ومن الطبيعي مع تغير هذه التركيبة المجتمعية في ظل الثورة الصناعية التقنية الثانية أن تتغير أشكال التنظيم السياسي وآلياته الإجرائية، وهي ظاهرة بارزة للعيان وإن لم تطور أدواتها القانونية والعملية، رغم أن الجميع يلاحظ بوضوح انهيار الأحزاب السياسية والعزوف عن المنافسات الانتخابية وتبدل القاعدة الاجتماعية للتنظيمات السياسية (كاستقطاب الأحزاب اليمينية المتطرفة لأصوات الطبقة العاملة التي كانت في السابق القاعدة الانتخابية لأحزاب اليسار).

أما البعد الثالث فيتعلق بالجانب الفكري الأيديولوجي الذي انتظم خلال القرنين الماضيين عملية الصراع السياسي، ضمن عملية التصادم الثرية حول تركة عصور الأنوار التي صاغت الديناميكية الحية للأفكار السياسية الحديثة.

لقد تساءل مؤخراً الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه: ألا نعيش اليوم نهايةَ دورة تاريخية بدأت مع الثورة الفرنسية جعلت من رؤية معينة للعالم محور الصراع حول السلطة، بدلاً من الدفاع عن إقليم أو سلالة أو رابطة منفعية؟

ما يلاحظه دوبريه هو أن أزمة الديمقراطيات الأوروبية المعاصرة ناتجة عن حدث جوهري هو الخروج من أفق التاريخ بصفته تحقيقاً لمصير إنساني عظيم نهايته تحرر البشرية وخلاصها، وهي فكرة موروثة من التقليد المسيحي. فلأول مرة في تاريخ المجتمعات الأوروبية، تحولت السياسة إلى إدارة للخوف دون دائرة معنى في الماضي أو أمل في المستقبل، بما يعني ضبط الحاضر وفق منطق التسيير الإجرائي التقني الذي لا مكان فيه للرمزيات المحركة الفاعلة.

ومن هنا نهاية السياسة من حيث هي تجربة قيادة وقرار وتغيير نوعي وتحولها إلى عملية إدارة تقنية ناجعة لبرامج يضعها الخبراء وينفذونها دون الحاجة إلى جدل فكري أو أيديولوجي حول طبيعة البرامج المجتمعية والخيارات الجوهرية.

 

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى