فضاء الرأي

خدمة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها من المسلمين / د.محمد ولد الداه ولد أيد

(خواطر فكرة وإنجاز مشروع)

بدأت هذه التجربة بالتحاقي بالعمل في الجامعة القرغيزية الكويتية سابقا (جامعة حمود كشغري حاليا) مطلع التسعينات من القرن الماضي ، وذلك بفعل تأثير البيئة الجديدة المغايرة تماما لبيئة المنشأ والموطن والدراسة ، فكان مما أثار انتباهي في اللحظات الأولى حين بدت لنا معالم المدينة (بشكيك عاصمة جمهورية قرغيزستان) صدى الأذان مصحوبا بلكنة أعجمية ، حيث تسللت الطمأنينة إلى نفسي لأسباب عدة : فعلاوة على ما تبعثه ألفاظ الأذان من طمأنينة في النفس وراحة للقلب بما تحمله من تعبير وبما تحيل إليه من ايحاء ،

 

فقد اطمأنت نفسي لوجود قاسم مشترك بيني وبين البيئة التي أنا قادم على الإقامة فيها ،  ألا وهو تلك الألفاظ .

كانت تلك الشرارة الأولى التي دفعتني للبحث عن تأثير الإسلام في انتشار اللغة العربية ، فأعددت بذلك بحوثا نشرتها تباعا بفضل الله في مجلة العلم والتربية التي تصدرها الجامعة (مقال نشر على حلقتين ، وأعيد نشره كاملا في العدد الخاص 5/6 لسنة 2005) ، وقادني البحث في ذلك إلى تلمس الأثر الحضاري للغة ، فكتبت أيضا عن ذلك (التأثير الحضاري للغة العربية ، مقال نشر بنفس المجلة عدد 2 سنة 2002)، لأنطلق نحو المحور الجديد الذي سيشكل ميدانا للبحث لسنوات من طرفي ومن طرف فريق بدأ يتشكل تباعا حول تأثير اللغة في العلاقة بين الشعوب .

كانت المشاركة في مؤتمر علمي للباحثين الشباب حول العالم (نظم بمدينة أوش التاريخية في ابريل 2003 بمناسبة مرور 1200 على ذكرها في المصادر التاريخية) ، بداية لتبلور فكرة العمل في المجال ، وذلك حين انتدبني للمشاركة في هذا المؤتمر  زميلي ورفيق دربي الأستاذ : إزيد بيه ولد محمد البشير الذي كان ساعتها يتولى رئاسة قسم اللغة العربية ، وكنت أحد أساتذته ، فرافقت زميلي الأستاذ والباحث زياد هواش من الأردن وهو صاحب اليد الطولى في البحث في تراث المنطقة ، واثنين من طلبتنا المتميزين هما : الأستاذ براط علي والأستاذ نورعالييف مرات ، الذي سيصبح فيما بعد حجر الزاوية في المسار الذي كنت اسلكه رويدا رويدا لتشكيل لبنات المشروع .

كان الموضوع الذي شاركت به في ذلك المؤتمر العلمي المتميز والذي قدم فيه مائة بحث من مختلف دول العالم وإن كان أغلبها آسيوي ، حول : اللغة وأثرها في العلاقة بين الشعوب : اللغة العربية نموذجا ، وقد فاز البحث بالمرتبة السادسة ليكون  بفضل الله  ضمن البحوث العشرة الأولى التي تم تكريم مقدميها في ختام المؤتمر ، وكان من أوائل البحوث التي نشرت في مجلة الجامعة ونشرت في عدد خاص بأبحاث المؤتمر (مايو 2003) .

التقط تلميذي وزميلي الفكرة وبدأنا نناقشها فكان أن تم تسجيل بحثه للإجازة بالجامعة  تحت عنوان : الألفاظ العربية في اللغة القرغيزية ، وبدأت الحلقة تتسع فتولى الإشراف عليه زميلي اللغوي المتميز الأستاذ حسام الربيعي من العراق وكنت أنا والأستاذ إزيد بيه نؤطره في الموضوع ، فركزنا على الحقول الدلالية ذات الطابع الديني لكثافتها من جهة ، ولتمكين الباحث من استيعاب موضوعه في هذه المرحلة والتمكن من إنجازه في الوقت المحدد .

كانت تلك اللبنة الأساسية الأولى ، ثم رفدناها بتسجيل نفس الموضوع لنفس الطالب الباحث في الماجستير ، ووسعنا الأفق الدلالي لديه ، وشاءت الأقدار أن نتناوب نحن الثلاثة في الإشراف على هذا البحث ، الذي انتهي بين يدي حين المناقشة .

كانت رحلة إعداد البحث لاستظهار هذه الثروة اللغوية التي سنؤسس بها لمشروعنا ، تصاحبها رحلة من اليأس والتردد في وفاء الكتب الدراسية المقررة على أبنائنا بالغرض المطلوب من تمكين هؤلاء الطلبة من ناصية اللغة العربية وبمهارة ، وليس ذلك من قبيل نقص فيها ، أوعدم كفاية في بنائها العلمي المتقن ، حيث سهرت على إعدادها لجنة من الخبراء المتخصصين ، وانفق عليها بسخاء لتخرج في ثوب أنيق جاذب ، لكن المشكلة في انعدام جاذبيتها لدارسي اللغة العربية في بيئاتهم المحلية ، لافتقارها للكثير من القواسم المشتركة بين البيئتين (بيئة الإنتاج وبيئة الاستهلاك).

مكننا السهر على هذا البحث من البدإ في العمل على تشكيل لجنة للتأليف والنشر بالجامعة برئاسة أستاذنا الدكتور علي العبدو رئيس قسم اللغة العربية في حينها ( شكلت في : 29/03/2004 وأعيد تشكيلها في 18/10/2004) وتشرفت بأن أكون مقرر اللجنة ومنسق عملها ، ومعد الكتب للإخراج والطبع والنشر (ضمت اللجنة زملاء أفاضل يجب التنويه بذكر أسمائهم وهم : الدكتور حسن الشارف من المغرب والمرشح للدكتوراه عبد التواب شفيق من مصر ، والمرشح للدكتوراه  قيس الحمود من الأردن ، والمرشح للدكتوراه  زياد هواش من الاردن) ، وقد حظيت اللجنة بتشجيع منقطع النظير من قبل رئيس القطاع ورئيس مكتب قرغيزيا المرحوم بكرم الله الأستاذ عبد اللطيف الهاجري ، الذي كان حريصا على متابعة خطوات عملها في كل آن وحين ، وتمكنت هذه اللجنة من اصدار الكتابين الأول والثاني من سلسلة تعليم اللغة العربية خاصين بالجامعة ومنطقة آسيا الوسطى ، وكرمتني الجامعة في مارس 2005 بشهادات التقدير حين خروج الكتاب الأول من السلسلة التي تميزت باعتمادها الرصيد اللغوي للمشترك من الألفاظ بين اللغتين العربية والقرغيزية ، أي بمعنى آخر من الرصيد اللغوي للغة العربية في اللغات التركية ، وهو ما سهل الكتاب وجعله في متناول طلبة منطقة آسيا الوسطى وكان بفضل الله سبيلا لانتشار اللغة العربية والاقبال على تعلمها.

وقد شاءت الأقدار أن يأتي إلى المنطقة عالمان جليلان من جامعة افريقيا العالمية هما البرفسور عمر الصديق عبد الله عميد معهد اللغة العربية بجامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم والبرفسور محمد علي حسن نائب المدير للشؤون التعليم بنفس الجامعة ، وهما من بين الفريق المؤلف لأكبر سلسلة لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها والمعروفة عندنا بسلسلة ام القرى أوكتاب أم القرى ، للإشراف على تكوين معلمي اللغة العربية للناطقين بغيرها في دورة امتدت على شهر مايو من عام 2008 .

وفي أول يوم من الدورة أخبرني عميد كلية اللغة العربية بجامعة البناء والعمارة زميلنا الدكتور محمود القيسي من العراق أنهما يرغبان في مقابلتي ، فقلت في نفسي خيرا اللهم اجعله خيرا ، نحن لا زلنا نثبت اسماءنا في كشف الحضور فما الذي يحمل هذين العالمين الجليلين على طلبي بالمكتب قبل بدإ الدورة .

ساورتني في الطريق إلى المكتب الكثير من الخواطر وكانت السلبية قبل الإيجابية تغلب عليها ، لكنني من إن دخلت عليهما حتى استقبلاني بالأحضان فاطمأننت قليلا ، ثم بادرني البرفسور عمر الصديق بالسؤال : هل أنت من طلبة الدكتور محمود فهمي حجازي ؟ قلت نعم ، فابتسم ، ثم قال : هل ناقشك في الماجستير الدكتور محيي الدين صابر ؟ قلت نعم ، فقال : أنت بفضل الله محظوظ شنقيطي الأصل ودرسك مثل هؤلاء الأفذاذ من علماء اللغة والحريصين على نشرها وانتشارها (رغبت طبعا أن أقول له بل ولاتي والسودانيون يعرفونها جيدا ، لكنني احتفظت لشنقيط بمكانتها في نفوسنا وتركت الأمر يمر بسلام).

بدأت أطمئن قليلا لكنني لم أعرف سر استدعائي فهذه البيانات مسطرة في الشهادة التي هي مرفقة بالملف ، ومذكورة في السيرة الذاتية التي ترشحت بها للدورة ، وأثناء تأملي خاطبني البرفسور محمد علي حسن قائلا : يا بني إن الفكرة التي أقيم عليها هذا الكتاب فكرة رائعة ، ثم استل الكتاب من بين رزمة كتب كانت أمامه ، فأدركت أن بإمكان أبي حنيفة الآن أن يمد رجله ، ثم أردف قائلا : لقد استخدمتم أسلوبا جيدا في بناء الكتاب والتدرج به وغرستم فيه ما ترغبون جنيه من ثمار تربوية ومعرفية وأنتم في هذا لا تختلفون عن غيركم ، غير أن ما ميز كتابكم بالفعل هو أنه يبحث في المشترك ، حيث أقيمت بنيته اللغوية على الرصيد اللغوي العربي الذي تزخر به لغات الأقوام التركية ، لذا فأنا  أتوقع أنكم بهذا العمل أثبتم رؤيتكم النقدية لعمل من سبقكم ، وهيأتم الأرضية لنجاح تجربتكم ، فأتمنى أن تزيدوا في الطبع ، وتعتنوا بالمراجعة لتسهلوا مهمة انتشار اللغة العربية في هذه الربوع بهذا الغرس الرائع .

حين خروجي اختلطت المشاعر في نفسي بين الفرح والحزن ، فرح لمشروع بدأ يرى النور بالإنجاز فقد تم طبع جزأين من السلسلة التي من المقرر أن تأتي في أربعة أجزاء ، وحزن مما يلوح في الأفق من أمارات لأفول المشروع بانفكاك عقد اللجنة بعودة البعض إلى أوطانهم ، وانخراط البعض الآخر في أعمال لا تتيح متطلبات إنجازها الوقت لاستكمال مشروع كان يوما واعدا .

وكعادة كل حلم عربي انهار المشروع في منتصف رحلة العطاء (بعد انجاز الكتابين الأول والثاني من خطة سلسلة لأربعة أجزاء) ، وتحول إلى اجتهادات فردية ، تحاول بصدق وإخلاص جبر ما انكسر ، لكن الأحلام أضعف من مواجهة الانكسارات .

 

المصدر: موريتانيا الان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى