الأخبارالصدى الثقافيفضاء الرأي

رحلة في “رحلة مع الحياة”…/ محمد المختار الفقيه

القاضي / محمد المختار ولد الفقيه

تربطني بالدكتور محمد المختار ولد ابَّاه أكثرُ من وشيجةٍ، ليس أقربها أنه كان خِلاًّ لخالي الذي يلتقي معه في الكنية: بابا بن محمد عبد الله رحمه الله تعالى، فضلا عن أن جدي محمد عبد الله، رحمه الله كان ذكَّاراً له، يثني عليه و يشيد بعلمه أيَّامَ كنت حدثا و يقرن ذكره تارة بذكر علوي آخر حمَّلني برسالة له أول مقدمي للدراسة بالرباط سنة 1980 ألا وهو طيب الذكر و المحتد محمد الكبير العلوي نجل العالم الجليل حرمه ولد عبد الجليل.

ولمَّا أن قرَّر الدكتور محمد المختار ولد ابَّاه، حفظه الله تعالى افتتاح (جامعة شنقيط العصرية) ألحَّ عليَّ الخال الكريم بالانتساب إليها؛ فكنت ضمن دفعتها الأولى في مسلك الشريعة والقانون، فتحصَّلتُ منها على شهادة “الماستر” بعد كَدٍّ و تَعَثُّرٍ!

و من حسن ظن الدكتور محمد المختار ولد ابَّاه، حفظه الله تعالى، أنه كلما لقيته يلح علي أن أسجل في سلك الدكتوراه، وأنا الذي ما حصلت على الماستر إلا بشق النفس، فمالي و للدكتوراه، و قد أصبحتْ مجرد ورقة صفراءَ تباع وتشترى كما تباع وتشترى شهادة تلقيح الحمى الصفراء المعروضة على مناضد العيادة المجمًّعةِ؟!

أقول هذا لأتسلل خلسةً إلى ضفاف رحلة الدكتور محمد المختار ولد ابَّاه مع الحياة بعد أن خرجت من مغامرة الغوص في بحرها الطَّامي و لُجَّتها الزاخرة بالأصداف و اللآلئ!

لم يشأ الدكتور محمد المختار ولد ابَّاه (بابا) أن يَسِمَ كتابه كما يَسمُ غيره من الكتاب و الساسة تجارب حيواتهم بوسم سيرة، أو مذكرات؛ و إنما شاء له أن يكون رحلة مع الحياة، رحلة بدأت على ظهر جمل ثم انتقلت إلى قمرة طائرة كان هو في الحالين راكب الجمل وقائد الطائرة!

لست هنا،طبعا، بصدد تلخيصٍ لرحلة الدكتور محمد المختار ولد ابَّاه مع الحياة؛ فما بالك بتقييمها أو نقدها، و لا حتى إبداء رأي فيها و أنا الذي قال يوما، من جملة ما قال ناظما، لا شاعرا، و قد ظفر بلقاء مع العلامة محمد سالم ولد عدود رحمه الله تعالى:

كيف أرقى و يرتقي سقط شعري

                                       كـي يوافيــــك يا أمير البيان؟

أنت نجمٌ على الثُّريا تعــــــالىَ        

                                     و مكاني من الحضيض مكاني!

فكيف لي أن أرقى لذروة سنام العلم و الأدب و السياسة و التاريخ و التصوف، و الفن؟!كيف لي أن  أطمع؟!

معاذ الله أن أطمع في غير تتبع  الرحلة، و إلقاء التحية من بعيد على الراكب و الطيار، و العالم، و المفكر، و الأديب، و المتصوف، و السياسي، و الفيلسوف، وعالم الاجتماع….!

حسبي، إذن، أن أجوس خلال المنهل ألتقط بعض الأصداف و اللآلئ أعلقها نياشين في قلادة الزمن الشنقيطي الذي سُفِّهَ بعض قادة رأيه و رعيله المؤسس قربانا لاستئثار خلف المستعمر بمقدمة المشهد! فصالوا وجالوا، وحرفوا التاريخ الناصع لرجال صدقوا الله ما عاهدوا عليه، لا رغبة في دنيا يصيبونها، و لا حظوة ينالونها، و لكن إيمانا بحق الوطن و بني هذا الوطن أن يمتلكوا زمام شأنهم، و أن تكون لهويتهم و لغتهم التي صنعها الاسلام الغلبة و السيادة على ثقافة المستعمر و حراس معبده الذين اصطنعهم و مكَّن لهم و سلَّمهم الأرض و ما في باطن الأرض!

لن أذهب بعيدا في استحضار الماضي؛ رغم أن بعض جراحه ما تزال مفتوحة…لم و لن تندمل! سوف أخفف الوطء مستلهما قول المعري:

خفف الوطء ما أظن أديم الـ

                                    أرض إلا من هذه الأجساد

 سأسير الهوينى على الكثبان فما أديم الأرض التي أمشي عليها إلا من تلكم الجراح!

 و لقد كفاني الدكتور محمد المختار ولد اباه، و كفى غيري من الأكثرية المحيَّدة الصَّدع بالحق بعد ما امتلأت الصحائف و الدواوين بما حسبه البعض تاريخا، أو تأريخا لمسيرة هذا الوطن، بينما لم يكن في جُلِّه سوى اصطناع مجد و تسفيه نضال، وبخس جيلٍ مؤمن بربه و بحق وطنه و حقه في أن يراه كما يجب أن يكون.

لقد أسرني أسلوب الرحلة السهل المتنع، العميق، و شدني تواضع الراكب الذي ضرب في مناكب الأرض، وزاحم بكتفيه الملوك و الرؤساء وعمالقة الساسة و الفكر و العلم و الأدب، و الفن، و أبطال الرياضات الذهنية، لكنه بقي كما هو إنسانا بكل ما في كلمة إنسان من معنى: يأكل “العيش” و يلعب “صرند”، و يجالس الفنانين، و يقرض الشعر بلونيه الفصيح و الشعبي، و يطرب للحن شجي ؛كأنما يجسد زفرة تلك المرأة العربية ذات حنين:

لبيتٌ تخفق الارواح فيه

                           أحبُّ إلي من قصر منيفِ

ولبس عباءة و تَقَرُّ عيني

                          أحبُّ إليَّ من لِبسِ الشُّفوفِ

و أكل كسيرةٍ من كَسْر بيتيِ

                          أحبُّ إليَّ من أكل الرَّغيفِ

فما أبْغي سوى وطنيِ بديلاً

                        و ما أبْهاه من وطنٍ شريفِ!

سأقتصر في هذه العجالة على تقديم طبق خفيف مُشَكَّلٍ من بعض الطرف أو النكات الدالة التي ترصعت بها هذه الرحلة الشاملة الكاملة الوافية، و أبدأ بمقولة ذات دلالة عميقة لن يدركها إلا الراسخون في المختصر:مختصر خليل بن إسحاق؛ إذ أورد الدكتور على لسان أحد الظرفاء قوله إن الشيخ خليل “ما يقول كلمتين أخوات”! وهي عبارة تعني ما يعرفه كل واحد منا بالحسانية لكنها هنا بعيدة كل البعد عن الاختلاق أو الكذب!

و من تلك الطرف الظريفة إضراب ركاب سفينة الحجيج الشنقيطي سنة 1953 التي كان على متنها الدكتورعن الطعام المُقدم لهم المكون من لحم الدجاج و البيض والسمك، و حالة الفوضى و الهرج التي سببها ذلك لطاقم السفينة الفرنسية!

 و لا يساورني أدنى شك في أن رفيق رحلة الدكتور فتى المحروسة تمبدغة الأصيل إزيد بيه ولد عبدي رفيق والدنا و ابن أخت جدتنا القلاوية: محمد المختارولد أحمدو ولد امحيميد، شيخ عامة مشظوف، كان على رأس مثيري”الشغب”؛ إذ أنني على يقين أنه لن يضيع فرصة كهذه و هو المعروف بدعابته و ذكائه فضلا عن علمه و طيب محتده!

ومن أغرب الطرف طلب المقيم الفرنسي من الحجاج الشناقطة الدعاء لفرنسا، و هو ما يذكرني بمضمون الحديث الشريف، حيث إن بعض الصحابة دعوا رسول الله صلى عليه وسلم قائلين إن دوسا قد بغت و فجرت فادع عليهم؛ فرفع رسول الله صلى عليه وسلم يديه الشريفتين، فقال بعضهم هلكت دوس…هلكت دوس، لكن الرسول الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه قال اللهم اهد دوسا وائت بهم، أو هكذا قال! ولا أشك أن الحجيج الشنقيطي أو بعضه على الأقل، وعلى رأسهم الدكتور محمد المختار ولد اباه قد دعا الله في الديار المقدسة، أن يقطع دابر فرنسا و يزيح نيرها عن بلاد شنقيط، و غيرها من ديار المسلمين.

و من تلك الطرف و النكت الجميلة تلك التي أوردها محمد المختار ولد اباه على لسان الملك همام الذي عاده في مرض ألم به فقال له الدكتور: أيها الملك إذا ما اتفق وكانت عندك مائة أوقية فهل ستعطيني منها أوقية واحدة؟ فاجابه الملك همام دون تردد: بلى! فقال له الدكتور، و كان تناهى لسمعه أن ثروة الملك همام وصلت مائة مليون: إذن أطلب منك أن تعطيني مليون أوقية! فرد الملك همام بحضور بديهته المعهودة: ظاهرلي عنك ما زلت قالَّ صحتك ( أي أنك لم تشف بعد)!

و ليس أقل طرافة مما سبق من الاستقبال الذي كان مخصصا للدكتور خلال مشاركته في مجمع اللغة العربية بالقاهرة أن لا حظ أن الموظف المكلف باستقباله كان يرفع لافتة كتب عليها الدكتور “محمد المختار ولد داده”!

ومن الطرف أو المفارقات، و إن كانت محرجة كما وصفها محمد المختار ولد اباه، ما حصل معه إبان استلامه إدارة الجامعة الاسلامية بالنيجر إذ وجد الصناديق فارغة و الجامعة على وشك الاغلاق من تراكم مستحقات العاملين و ضرورات العمل؛ فطار الى جدة و استطاع بحكم علاقاته المتشعبة أن يظفر بمبالغ مهمة تسد حاجة الجامعة على شكل شيكات حملها على جناح السرعة إلى نيامي، لكنه لما حضر إلى نيامي نقَب عن تلك الشيكات فلم يجدها في أي من متاعه، فتبين أن المحفظة التي وضعها بها قد ضاعت؛ فهُرع إلى أحد البنوك طالبا المساعدة الى أن يتم العثور على الشيكات، لكن مدير البنك تشاغل عنه في مظهر جلي من مظاهر التنصل! لكن الدكتور استطاع أيضا بفعل علاقاته أن يتدبر الأمر و يستصدر شيكات بديلة سوَّى بها الوضع لتظهر المحفظة بعد ذلك و بها الشيكات الضائعة!

ومن القصص المثيرة قصة الوفد الصيني الذي استقبلهم في بكين ذات زيارة، وقدم عريفه نفسه أنه يرحب بهم باسم مجموعة “العصيان التابعة لمجموعة التمرد الثوري”! وهم ما لم يصدقه “بريزدان” حمود ولد أحمدو ولد امحيميد، مما اضطر محمد عبد الله ولد الحسن للحلف بأغلظ الأيمان أن هذه كانت جواهر ألفاظ المسئول الصيني!

ومن المفارقات المحرجة ما حصل للدكتور محمد المختار ولد اباه مع مطوف الحجاج في مكة المكرمة سنة 1953 إذ أنكر  المطوف أنه استلم منه مستحقاته من الحجاج، لكن والدة المطوف أكدت مقال الدكتور و أثبتت ذلك بمراجعة عَدِّ رزم المال في الخزينة!

ولا يقل طرافة ما شاهده أو سمعه الدكتور وهو بالمدينة المنورة في حفل زواج شنقيطي بالمدينة المنورة مما ذكَّره بقول الصديق، رضي الله عنه وقد وجد الأحباش يتراقصون في بيت رسول الله صلى عليه و سلم: أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى عليه وسلم؟ فرد المصطفى صلى عليه وسلم على الصديق: دعهم فإنه يوم عيد!

ومن غرائب الصدف التي وقف عليها الدكتور ذات زيارة لمصر وجود شخص في القاهرة يدعى (زكريا بن خينو) يصف نفسه بأن ولي عهد (كيدي ماغا) وكان المصريون يعاملونه على هذا الأساس و يخصصون له سكنا و عناية تليق بمقامه!

و لا تنتهي ملاحظات الدكتور محمد المختارولد اباه دون التلميح لضعف أداء بعض اجهزة منظمة المؤتمر الاسلامي كاتحاد الإذاعات الاسلامية الذي كان يختصر هكذا:( احتسبوا) أي رددوا  حسبنا الله و نعم الوكيل! ووكالة الانباء الإسلامية( إينا) انا لله و انا اليه راجعون!

أما آخر العناقيد التي أختم بها هذا الطبق الشهي؛ فنجنيه من تثمين الدكتور محمد المختار ولد ابَّاه وإشادته  بمكانة ودور الدكتور إزيدبيه ولد محمد محمود الذي بدأ مجلس جائزة شنقيط عمله في مكاتب المدرسة العليا للأساتذة التي كان يديرها آنذاك؛ و قد قلَّده الدكتور محمد المختار ولد اباه في رحلته مع الحياة، وسام هدَّاف الفريق: فريق جائزة شنقيط التي كان عضوا فيها!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى