مقالات و تحليلات

«سر» و«تيزيني».. ومستقبل الفلسفة / د. السيد ولد أباه

د. السيد ولد أباه / أكاديمي موريتاني

في آخر الشهر المنصرم رحل عن عالمنا فيلسوفان بارزان هما الفيلسوف الفرنسي ميشال سر والفيلسوف السوري زميلنا الطيب تيزيني. لا شيء يجمع بين الرجلين سوى الاختصاص والعمر الثمانيني، بيد أن كلا منهما يمثل نموذجاً للتفلسف في طريق الانحسار: نموذج الفيلسوف الموسوعي الذي يبحث عن خيوط الاتصال والتداخل بين المعارف والعلوم والممارسات الاجتماعية، ونموذج الفيلسوف الملتزم الذي يمارس عملية الصراع السياسي الاجتماعي من داخل النص والنظرية.

كان ميشال سر حالة فريدة في الساحة الفلسفية الفرنسية رغم كونه ينتمي لجيل ميشال فوكو ولويس التوسير وجاك دريدا، إلا أنه لم ينل الحظوة التي نالوها وظل على هامش الدرس الأكاديمي الفلسفي وبعيداً عن الأضواء التي استقطبت ذلك الجيل الذي احتل لعقود واجهة الإعلام والمكتبات.

لم يسع ميشال سر إلى انتهاج المسلكين الأساسيين للتفلسف في فرنسا: مسلك التفكيك والنقد الجذري (فلسفة المطرقة حسب عبارة نتشه) ومسلك التمرد الراديكالي على مكونات العصور الحديثة من العقل الذاتي والتقانة والدولة القومية. لقد تزامن صدور كتابه الأول الذي هو أطروحته الهامة حول نسق الفيلسوف والرياضي الألماني لايبنتز مع «ثورة 1968»، لكنه لم ينْسق مع هذا الحدث الراديكالي الذي جذب فلاسفة فرنسا البارزين من سارتر إلى فوكو.

لقد احتفظ سر، وهو تلميذ فيلسوف العلوم غاستون باشلار، بصورة «الموسوعي» الذي لا يرى سبيلا للفصل بين المفاهيم والمناهج الفلسفية والنظريات والتجارب العلمية، بحيث يرى أن كل فلسفة تستبطن علوم عصرها كما أن الفلسفة تتحول بتحول القارات العلمية التي تدشن كل منها آفاقاً جديدة للتفكير الفلسفي. وتلك هي بالنسبة له صورة الفيلسوف الحقيقي منذ أرسطو إلى هيغل وهوسرل.

إن تلك المقاربة للتفلسف هي التي أهلت سر، الذي دلف للعمل الفلسفي من بوابة الرياضيات والعلوم البحرية، لاستكناه التحولات النوعية الكبرى التي عرفها العالم المعاصر في سلسلته الطويلة التي أطلق عليها تسمية «هرمس» (إله التبادل والاتصال عند اليونان)، منتبهاً منذ نهاية الستينيات إلى إرهاصات الثورة الاتصالية الرقمية التي غيّرت جذرياً وضع الإنسانية. كما أن «سر» انتبه مبكراً إلى التحديات التي تطرحها الرهانات المناخية على البشرية، داعياً في كتاب منشور باسم «العقد الطبيعي» إلى تعميم مقولة العقد الاجتماعي التي بلورها فكر الأنوار في القرن الثامن عشر إلى عناصر الطبيعة بتحويلها إلى ذوات قانونية لها حقوق مكفولة معيارياً.

أما الطيب تيزيني فكان سباقاً في منتصف السبعينيات إلى بلورة المسألة التراثية التي شغلت العديد من الفلاسفة العرب من بعده، مثل محمد عابد الجابري وحسن حنفي ومحمد أركون.. معتبراً أن الإبداع النظري المطلوب في الفكر العربي يقتضي الحسم المنهجي في معالجة التركة الثقافية العربية الإسلامية التي لا تزال مؤثرة وفاعلة في وعي الإنسان العربي المعاصر.

وهكذا أطلق تيزيني على مشروعه الطموح الذي أصدر منه ستة مجلدات عنوان «من التراث إلى الثورة»، منطلقاً من رؤية ماركسية وفق مقاييس «المادية التاريخية» في قراءة المنتجات الثقافية من حيث هي آثار لتركيبة طبقية اجتماعية تحكمها عوامل تاريخية محددة.

إن مظهر التجديد في أطروحة تيزيني لا يكمن في تبني المنهج الماركسي الذي تحول منذ نهاية الستينيات إلى حالة رائجة في الفكر العربي، مما حدا وقتها بالمفكر العربي عبد الله العروي للمطالبة بملاءمة هذا المنهج مع خصوصيات السياق الاجتماعي والثقافي العربي في تطلعه لعملية التحديث والتنوير بعمقها الليبرالي. بل يمكن القول إن إسهام تيزيني الأساسي يكمن في قراءته الإيجابية للتراث العربي الإسلامي التي كانت خطوةً نشازاً في المنظومة الماركسية العربية، في نظرتها النقدية الراديكالية للدين اعتقاداً ونصوصاً، كما يظهر من الجدل الواسع الذي خلّفه كتاب الفيلسوف السوري صادق جلال العظم «نقد الفكر الديني» الصادر عام 1969.

لقد قاد المنهج الثلاثي الذي اعتمده تيزيني في جمعه بين تحليل النص ورصد سياقه الاجتماعي وضبط إطاره التاريخي، إلى استكشاف الديناميكية الداخلية للخطاب التراثي المعبِّر عن أنماط من الصراع الاجتماعي تكشف عن مواقف متصادمة تجسد حيوية الثقافة العربية الإسلامية.

لم يخف تيزيني هدفه الأساس من قراءة التراث، والذي هو التهيئة للثورة الاشتراكية من خلال عملية تعبئة ثقافية وأيديولوجية واسعة، سعى دون نجاح كبير إلى تنظيم هياكلها السياسية النضالية. ولا شك أن مشروع تيزيني عانى كثيراً في العقود الأخيرة من انحسار الفكر الماركسي وتراجع مُثُله الأيديولوجية وبرامجه السياسية، وإن ظل إسهامه الأساسي في استكشاف المسألة التراثية رصيداً باقياً يحسب له.

في السنوات الأخيرة، عانى تيزيني كثيراً من تردي الأوضاع السورية، ورغم كفاحه المبكر من أجل التغيير والانفتاح السياسي، لم يغادر بلاده في سنوات الفتنة والقمع وظل إلى آخر لحظة متمسكاً بأمل التحول الثوري الذي كان الدافع القوي في التزامه الفلسفي.

 

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى