الأخبارالصدى الثقافي

مسار وحياة.. ملاحظات سريعة على مذكرات د. محمد المختار ولد اباه / د. سيدي محمد ولد سيدي

ترجمة د. سيدي أحمد ولد الأمير

 شرفني الدكتور محمد المختار ولد باه بإهدائه يدا بيد لنسخة من مذكراته التي عنوانها: “رحلتي مع الحياة “، والتي لا يمكن أن تكون ترجمتها (إلى الفرنسية) في رأيي بشكل عام، ومع مراعاة التقدير الذي سنراه، “مبارزة مع الحياة” ولكنها مع ذلك أيضا رحلة معطرة بالتقوى، وتعكس إيمانا عميقا بالتعاليم الإسلامية والخضوع للخالق، كما أنها مشبعة بمعان صوفية، وهو أمر يسهل فهمه تماما.

 

قد يمنعني من التعرف المعمق بصاحب هذا النص طبيعة الاحتشام الذي يطبع علاقتي به والذي تعززه عوامل نابعة من التربية الخاصة، وعلى رأس تلك العوامل التوقير المستحق، ثم أيضا افتقاري إلى التجرد لأسباب موضوعية ترتبط بفارق السن من ناحية، وبالانشغالات الجامعية التي يفرضها السياق المعاصر.

 

وما يؤسف له من ناحية أخرى، وعلى الرغم من اللقاءات العائلية الظرفية بيننا في كل من المغرب وموريتانيا والتي كانت مجرد لقاءات عادية، أنه قد فاتني التعرف على ملامح هذه الشخصية الفريدة واكتشاف أبعادها الحقيقية، حيث كانت معرفتي بكل ذلك مجرد معرفة سطحية. وتأتي هذه المذكرات، في الوقت المناسب، لملء هذا الفراغ، ولتجاوز هذا الندم المذكور.

 

 

 

ودون أن أرغب في استعراض جميع مراحل هذه الرحلة غير المسبوقة، والتي يجسدها هذا النص، لا بد لي من التركيز على بعضها وربما يكون ذلك البعض هو ما حفزني على كتابة هذه الملاحظات. وليست في ملاحظاتي هذه أي مجاملة فالمذكرات لها من القيمة ما يجعلها بغير حاجة إلى ذلك.

 

 

إن اكتشاف أصالة هذا النص متروكة لنباهة وحصافة القارئ المتمكن، ويمكن أن يرد عليَّ البعض بالمثل الحساني الشهير والشائع بين الناس: “ما ينسمع اكلامك اعليه”

 

 

 

بادئ ذي بدء، ينبغي التأكيد على أن القارئ الموريتاني، بصفة خاصة، والأجنبي بصفة عامة، سيعبران عن تقديرهما الكامل لهذا الجهد الذي تفرضه هذه الحياة المزدوجة: أولا في صبغتها البدوية الموريتانية وما يعنيه ذلك من التزامات أصيلة (التعليم الأصلي بكل تفريعاته وتشعباته في المحاظر، الظروف المعيشية الصعبة وما يطبعها من بساطة واستسهال للأمور، وما إلى ذلك)، وثانيا في صبغتها الحضرية التي تمليها طريقة أخرى للحياة، ولا بد أن نذكر أن هذه الصبغة الحضرية جاءت مع الاستعمار (وتتجسد في النص في البحث عن الذات والرغبة في التموقع الاجتماعي والتكيف، وهو مسار لم تكن انطلاقاته واضحة للمؤلف أو لم يكن مستعدا لها في البداية).

 

 

 

هذه الازدواجية، التي يصعب التغلب عليها، يصفها المؤلف بشكل رائع وبلغة سلسة وواقعية وفيها كثير من التأني، وهو أسلوب يعكس قدرته الخالية من التعقيدات على التعامل مبكرا مع مواجهته الأولى لتحديات الحياة.

 

 

 

في أول مساره نجد المؤلف يقبل طواعية غداة توظيفه بعلاوة متواضعة عندما عُين مدرسا للغة العربية في مدينة النعمة، متحملا مشاق تنقل لم يكن عَرَضا قريبا ولا سفرا قاصدا. كما قرر عند وصوله النعمة أن يجمع بين العمل وبين التعلم من أجل اكتساب أساسيات اللغة الفرنسية.

 

 

 

لقد كان التعطش للمعرفة يدفع المؤلف إلى مجال يؤكد مرة أخرى على الفجوة التي تفصله عن رصيده الثقافي التقليدي ويظهر ذلك في نجاحه، كمستمع حر، في كلا الجزأين من الصيغة القديمة للبكالوريا شعبة الفلسفة في مدينة سان لويس بالسنغال، إلى جانب أوقات فراغه واهتماماته المحلية (الشعر الحساني ولعبة “ظامه”) الذي كانت بمثابة جسر بين طموحه الشخصي وبين ارتياد مجالس أصدقائه المحليين التي ظل محتفظا بالتواصل معهم. لوحة.

 

 

 

وما تلا ذلك من متابعات في الدراسة تمثل في الحصول على درجة البكالوريوس في الأدب، مرورا بالتخصص في الطيران، ثم الحصول على الدكتوراه إلى شهادة التبريز بعد ذلك.

 

 

 

إن هذه المذكرات، وهذا للتاريخ، توضح أن العلاقة مع المملكة المغربية كانت مدفوعة بالوعي بما تعرفه البلاد من خضوع سياسي للمستعمر ولو كانت قد حصلت على استقلال شكلي، وذلك غداة المصادقة عليها القانون الإطار الذي كان الوزير الفرنسي غاستون ديفير عرَّابه.

 

 

 

سعى الفاعلون في هذه العلاقة، مثل المؤلف والأمير الراحل محمد فال ولد عمير، والدي ولد سيدي بابا، والشيخ أحمدو ولد سيدي، ومحمد أحمد ولد التقي، إلى البحث عن طريق يؤدي إلى استقلالٍ لموريتانيا، وذلك في فترة عرفت عنفوان القومية العربية، وفي هذا السياق أيضا كانت المملكة المغربية قد حصلت على استقلالها منذ وقت قصير، وهو أمر لا يمكن عزله عما يسعى إليه هؤلاء.

 

 

 

لذلك، فإن الدافع وراء فكرة الفيدرالية مع المغرب إنما كان بحثا عن مخرج من المأزق الاستعماري أكثر منه سعيا لتحقيق اندماج كلي معه. ومن هنا نفهم الخلاف الذي وضع هؤلاء الفاعلين (الأمير ولد عمير والمؤلف ومن معهم) في خصومة مع معارضين آخرين كانوا يغلبون اتخاذ وسائل عنيفة داخل التراب الموريتاني، بل يصل الأمر إلى حد الإنكار التام لما يسمى موريتانيا. ومما يؤكد على هذا عودة العناصر المذكورين مع السنوات الأولى للاستقلال. وقد شرحت هذا الأمر، من بين أمور أخرى، خلال برنامج “ضيف وقضية” في 4 نوفمبر 2015، على شاشة قناة “شنقيط”.

 

 

 

إن المفارقة التي تؤكد عليها هذه المذكرات هي ما حدث مع الرئيس السابق المختار ولد داداه، الذي كان قد التقى بهؤلاء المعارضين ثلاث مرات كما أكد على ذلك المؤلف في هذه الإحاطة السياسية وذلك قبل عودتهم إلى موريتانيا. إن موقف هؤلاء المعارضين كان يرى أن الاستقلال الذاتي الذي حصلت عليه موريتانيا إنما يكرس الاستعمار الفرنسي وسيبقى معه استقلال البلاد شكليا، ويبدو – من خلال هذه المذكرات – أن الرئيس المختار كان على علم مسبق بموفق المؤلف هذا ومن معه من المعارضين.

 

 

 

وفي الواقع، كان الرئيس المختار وقتها محاطا بدوامة من الفرنسيين تقيد أي قرار قد يتخذه، وبالتالي لم يكن لديه مجال ما للمناورة إلا بعد أن تمت مراجعة الاتفاقيات المبرمة مع فرنسا سنة 1972.

 

 

 

ومن سخرية التاريخ أنه في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وعندما تم ضم جزء من الصحراء لموريتانيا وما تلا ذلك، لم يجد نظام الرئيس المختار ولد داداه بدًّا من التحالف مع المغرب، وما تم حينها من صياغة للعلاقة مع المملكة هو نفسه ما دعا إليها هؤلاء المعارضون الأوائل.

 

 

 

وتبين هذه المذكرات أن ما كان يعرف بقضية المداني السباعي إنما هو خطة لتبرير سجن العائدين الأربعة من المغرب، بل إن تلك القضية كانت بمثابة مسرحية. إن رئيس المحكمة، الذي سيتعين عليه أن يحكم عليهم لاحقا، كان قد لقن المداني السباعي واعدا إياه بمغانم كبيرة أنه سيتم القبض عليك من قبل كذا وكذا، في المكان الفلاني والوقت الفلاني على أن يقول مثل تلك العبارات المجرِّمَة.

 

 

 

وخلال هذه المحاكمة، لم تكن المداخلة التي عبر عنها المؤلف في أول الأمر ضرورية إذا التزمنا بهذه العناصر المبرِّئة المختلفة، وقد شرح المؤلف تلك العناصر بالتفصيل، والتي تعتمد، كما هو صحيح، على وجود عدالة مستقلة.

 

 

 

وفي هذا النسق من مواجهة الحياة التي تعبر عنه هذه المذكرات نجد صورا معبرة منها: كون المؤلف لم يأخذ في الاعتبار سوء الأحوال الجوية، ولم يراع تعليمات الرصد الجوي في مطار نواكشوط، أثناء رحلاته في طائرته الصغيرة، وهو أمر – على رمزيته – مثير للعجب. كما أن المؤلف لم يستطع الحفاظ على اتزانه، وموقفه القدري في مواجهة مفاجآت الحياة بما في ذلك ظروف وفاة والدته، وهي قصة مؤثرة تدل على شدة علاقاته بها. وهذا قليل من كثير.

 

 

 

وينبغي التأكيد هنا على روح الانفتاح عند المؤلف ووقوفه إلى جانب زملائه، سواء كانوا معارضين في العمل السياسي أو في العمل، مع أننا لا ننسى أن مفهوم الخلاف السياسي والاعتراف بالآخر في بلدنا ليس في بعض الأحيان بالأمر المضبوط.

 

 

 

على أن ما تبقى من الرحلة هو استمرار منطقي وتكريس لكل هذا الإنكار الذاتي، خاصة بعد سنوات 1978، وقد تولى المؤلف مناصب في منظمات دولية وإقليمية، وتم تتويج جهده الأكاديمي والتعليمي بإنشاء جامعة خاصة.

 

 

 

إن أصدقاء المؤلف السياسيين، لولا مغادرتهم هذه الدنيا، فإنهم كانوا سيقدرون هذه المذكرات، وخاصة الأمير ولد عمير الذي كان سيسمح لنفسه بالاستطراد، مع التشبع بالخلق الرفيع، مثل ذلك الذي تم تبادله، أثناء احتجازهم، وخلال اجتماعهم بالمصادفة وبشكل مؤثر جدا في مطار العيون سنة 1964.

 

 

 

 وأخيرا، أتمنى للمؤلف، في نهاية هذا التعليق المتواضع، عمرا مديدا حافلا بين ظهرانينا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى