فضاء الرأي

موريتانيا والسنغال: الحل يكمن في المحبة والتفاهم / عبد الفتاح ولد اعبيدن

عبد الفتاح ولد اعبيدن / صحفي موريتاني

في الأثر : “المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين”. لقد علمنا التاريخ أن الجارة السنغالية الشقيقة رغم العمق الخصوصي لعلاقتنا تاريخيا وعقديا، غير محايدة أحيانا في شأن بعض أمورنا الداخلية، بغض النظر عن كنهها وهويتها في المحصلة.

فأحداث سنة 1989 سبقها شحن إعلامي وسياسي بغيض في أوساط بعض السنغاليين أنفسهم، لصالح ضحايا شريحة بعينها على رأيهم، وإن اقتصر الأمر على عشرات فحسب من أنصار حركة أفلام تفرقوا في البلاد واستدعوا الحمية والعنصرية في أوساط بعض الدول الإفريقية المجاورة، حتى وصل بعضهم إلى أوساط في الكاميرون البعيدة نسبيا، وإن كانت الأغلبية عندنا من جنسهم براء من تلك الدعاية والفتنة المدلهمة.

نعم زرت السنغال سنة 1987 للمشاركة في مخيم إسلامي تحت إشراف الندوة العالمية للشباب المسلم، والتي يقع مقرها بالمملكة العربية السعودية، وتم هذا المخيم الصيفي الثقافي الإسلامي في عاصمة السنغال دكار، في المقر الثقافي التابع للجامع المغربي هناك، ذي المآذن الشاهقة والنمط العمراني المشابه بالتمام والكمال تقريبا، للجامع المغربي هنا في نواكشوط، ومع اختلاف طبعا في حجم التشييد والبناء والمساحة.

فالجامع المغربي هناك معلمة روحية وثقافية بامتياز، مما يؤشر لعمق علاقة المغرب بالسنغال، دون أن تصل هذه العلاقة ونفس المقام مع الدولة الموريتانية الأكثر قربا بسائر المعاني على رأي البعض.

لاحظت التوتر في لهجة بعض الشباب السنغالي المشارك في المخيم، وإن كان مبتدأ الصلة بالصحوة الإسلامية هناك.

كانت اللغة نابية أحيانا والحديث يرتكز على معاناة بعض الموريتانيين الزنوج، وكان ذلك كما قلت آنفا في صيف سنة 1987، وكان الشريك الرئيسي السنغالي للتذكير، لتنظيم المخيم جمعية عباد الرحمن المشهورة.

وحضر ذلك المخيم المئات من الشباب الإفريقي المسلم من مختلف الدول المجاورة، مالي والنيجر وموريتانيا والسنغال وغيرها.

إلا أن المفاجأة كانت في تحول ذلك الغضب وذلك التضامن مع ضحايا المحاولة الانقلابية العنصرية في أكتوبر سنة 1987 بموريتانيا إلى أحداث دموية صارخة ضد الجالية الموريتانية في السنغال، وبقية القصة معروفة ومؤلمة، ولا يريد عقلاء كلا البلدين طبعا، أن تتكرر تلك الأحداث المؤسفة، بل الأحداث الفتنة باختصار.

إذن لا تقللوا من أهمية أو حتى خطورة الكلام والجدل المشحون بالعنصرية المتبادلة، في التأسيس للحرب لاحقا.

فلم تمض سنتان حتى وقعت أحداث رمضان سنة 1989، في البداية بالسنغال بشكل مروع وردة فعل مماثلة في نفس اليوم تقريبا بنواكشوط وغيرها، والتي لم يتمكن البلدان من التغلب عليها إلا بعد شد وجذب واحتكاك وخسائر فادحة واسعة في الأرواح والأموال على السواء.

وتركت أحداث 89 جرحا- وإن خفي أو توارى مؤقتا- إلا أنه عميق الأثر السلبي في الصلة بين الشعبين والبلدين.

وينبغي أن تكون تلك الأحداث المروعة السيئة درسا للجميع على الصعيدين الشعبي والرسمي في السنغال الشقيقة وموريتانيا الغالية.

إنما يجمعنا من عقيدة وتاريخ ومصالح مشتركة أكثر مما يفرقنا، إن افترضنا وجود ما يفرقنا أصلا.

وقد لاحظنا قبل أشهر نشوب سوء تفاهم بين الطرفين الرسمي السنغالي والموريتاني بسبب أزمة غامبيا ووساطة الرئيس محمد ولد عبد العزيز ومحاولته لحلحلة بعض جوانب الأزمة الغامبية بطريقته الخاصة، ثم جاء موضوع الصيد التقليدي ومحاولة موريتانيا مرتنة القطاع المذكور، ولعل الغاز على الحدود البحرية بين البلدين، له دور في بعض جوانب التأزم الراهن، العابر بإذن الله.

وربما تكون أيضا فرنسا غير راضية إطلاقا، عن استئثار شركتي “ببي” البريطانية و”شفروه” الأمريكية بأغلب الحصص وبالاستخراج الفعلي المتوقع سنة 2021.

ومهما كانت تأويلاتنا في هذا الصدد، إلا أن الواقع الفعلي أبلغ وأجلى من محاولة تحليل خلفية الخلاف الناشب الآن.

وإن كان خلافا ثابتا بعد أحداث 89، ليصبح مزمنا بهذا المنطق على رأي البعض، يتجدد حسب الظرفية، حيث دفعت الحكومات تحت ضغط أقليات من الشعبين إلى بناء العلاقة على أصل جديد، طارئ شاذ هو العنصرية والكراهية المتبادلة والتنافر المستمر، على حساب الأصل العميق البعيد للصلة بين الشعبين الإفريقيين المسلمين الموريتاني والسنغالي، اللذان يجمعهما عقيدة ومصالحا وتاريخا أكثر مما يمكن أن يفرقهما.

لتكون المحصلة باختصار وباستمرار، أن قرع طبول الحرب سيظل دائما مهما كانت النزاعات الإعلامية أو الفعلية العابرة.

أقول سيظل هذا القرع وحتى الاحتكاك في التوقيت الخطأ والمكان الخطأ، لأنه مرفوض باختصار ولا يمكن أن يدوم أو يستمر طويلا.

فالحكماء والعقلاء والإخوة المؤمنون في صفوف الشعبين الموريتاني والسنغالي أكثر تأثيرا وفاعلية في مسار الأحداث الرسمية والشعبية من نزق المتطرفين في كلا الضفتين.

وستستمر العبارة بين روصو موريتانيا وروصو السنغال، أقول إن شاء الله وبإذن الله إلى أن يكتمل مشروع الجسر.

ستستمر في العبور والتبادل البشري والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والإسلامي قبل ذلك كله، رمزا لاستحالة هزّ العلاقة بين موريتانيا والسنغال، حكومة وشعبا.

فعلا لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين، لن نستدرج مرة أخرى لساحة الفتنة بعدما حصل للأسف البالغ في رمضان المعظم سنة 1987 ميلادية.

إنني أدعو بجد وقوة ووعي وإخلاص جميع المعنيين، صحافة وحكومة ومواطنين، وحتى جهات خارجية تعرف نفسها، لتفهم هذه الحقيقة السياسية والتاريخية.

لقد أخذنا العبرة مما سبق، الحل يكمن في المحبة والتفاهم فحسب، ولتصمت إلى الأبد أبواق الفتنة الإعلامية والداخلية والإقليمية والخارجية، ولتتواصل الجهود الرسمية المتعقلة الحاذقة إن أمكن، على المستويين، لتجاوز الملفات العالقة بين الطرفين، دون السقوط التلقائي من غير وعي، في أتون الفتنة الحارقة للجميع، ولجميع المكاسب.

وأكررها دائما الصلح خير والتعقل والتريث والحوار أفضل، والشعوب في كلا الضفتين في أغلبيتها على الأقل، غير جاهزة لتكرار الفتنة واللعبة القذرة.

ومن أراد أن يدعونا في السنغال أو موريتانيا، رسميا أو شعبيا، فليدعونا إلى مزيد من المحبة والتعاضد، ولو عبر التنازلات من هناك وهناك، لضمان رص الصف دائما وترسيخ العلاقة بين القطرين الموريتاني والسنغالي الشقيقين المتجاورين، بعيدا بعيدا، عن كل ما يمكن أن يضر هذه العلاقة الغالية من قريب أو بعيد، لا قدر الله.

السيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز، السيد الرئيس ماكي صال، الرأي العام الناضج في كلا الضفتين وعلى الأقل في أغلبية الشعبين، لا يريد إلا المزيد من التفاهم والتعاون الرسمي والشعبي لمصلحة الدولتين والشعبين الشقيقين المتجاورين، وأما خلافاتكم جزاكم الله خيرا، مهما كانت مفبركة أو حقيقية.

فحاولوا حلها جذريا أو جزئيا أو تهدئتها على الأقل، ولا تسقطوها سلبا على هذه المعطيات الجامعة والهامة والحساسة.

فذهاب جامى عن دفة الحكم أو مجيء بارو إليها أو قضية صراعكم على غامبيا عموما أو غيرها، أو أزمة الصيد التقليدي وغيره مما ظهر أو خفي، حاولوا جزاكم الله خيرا أن تسيروه بتعقل وحكمة وأمان، دون المساس بالعمق الأخوي الغالي لصلتنا، فهي رهاننا الأول، قبل خلافات الأنظمة المتعاقبة ومشاعر المتغلبين والمتحكمين الحاليين في كلا الضفتين.

والسعيد من اتعظ بغيره.

فالدول التي أغرقت نفسها في الشقاق والحروب فقدت حتى استقرارها السياسي وسقط رؤسائها أحيانا، وتوقفت تنميتها وخسرت حكوماتها وشعوبها في آن واحد.

 

نعم أجل، السعيد من أتعظ بغيره.

فابعدوا النظر ولا تقرر وأنت غضبان، يا محمد ولد عبد العزيز ويامكي صال.

اللهم سلم سلم

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى