الأخبارتحقيقات

هكذا صنعت الأمراض والأوبئة التاريخ منذ العصر القديم إلى الحديث

بقلم : د.رضوان ضاوي*/

صدر كتاب “كيف تصنع الأمراض التاريخ منذ العصر القديم حتى اليوم؟” للمؤرخ والصحافي وطبيب العيون الألماني رونالد ديتمار غيرسته Ronald Dietmar Gerste في مارس 2019 باللغة الألمانية عن دار النشر الألمانية كوت-كوتا (385 صفحة).

 

ويتبنى المؤلف في كتابه العابر للتخصّصات أسلوبا علميا تدريسيا ممتعا ومحفزا، ضمن رؤية معرفية احترافية للنصوص التاريخية في عرض معلوماته وأفكاره، وفي إطار الأطروحة القائلة إنّ أمراض الكثير من قادة الدول العظمى غيّرت مراراً وتكراراً من مسار التاريخ وفي مسار الشؤون العالمية في اتجاه آخر، كما أثّرت الأمراض التي أصيب بها المثقفين والأدباء والفنّانين على مصير مجموعة من الأعمال الفنية والثقافية المعروفة.

 

وساهمت الأمراض والأوبئة في صنع التاريخ، كما ارتبطت دائمًا بالسياسة والاقتصاد وعلى مرّ العصور وأثرت على نتائج الحروب، وكان لها الأثر في تحديد حياة وثقافة ووعي الشعوب.

 

يركّز المؤلف على ثلاثة عناصر فاعلة في هذا الكتاب؛ وهي كالتالي: الشخصيات السياسية التي تأثرت إنجازاتها بالأمراض أو بالموت المفاجئ، فقد بدّل مرض أو موت شخصيات تاريخية المفاجئ مجريات التاريخ؛ منهم: ألكسندر الأكبر فاتح العالم، وجورج واشنطن ووودرو ويلسون وهتلر وفرانكلين روزفلت، وجون ف. كينيدي. وخصص الباحث لمرض أو موت الشخصيات الثقافية حيّزاً مهما من كتابه لكونها أثرت في الذوق الفني العالمي، حيث أثَّر وضعهم الصحّي بشكل واضح على أعمالهم وآثارهم الفنية والأدبية والثقافية، مثل بيتهوفن وفريدا كاهلو ويوهان سباستيان باخ.

 

وخصّص الباحث فصولًا لموضوع الأوبئة والأمراض مثل الطاعون أو ما كان يسمي بالموت الأسود الذي فتك بأوروبا، أو مرض الزهري، أو مرض الجدري الفتّاك، إضافة إلى مرض النقرس الذي يتسبب في الوفاة المبكرة والوباء العالمي الكوليرا، ثم الأنفلونزا الإسبانية.

 

وتتميز معارف المؤلف بأنها تتكون من تآلف بين العديد من التخصصات، وقائمة على المعرفة بالعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وهذا التحالف جاءت نتائجه بشكل جلي من خلال المفهوم الجديد في هذا الكتاب بطرحه للسؤال: “ماذا لو”. يمكن القول إن السيرة الذاتية الممزوجة بالسيرة المَرضية، التي يسعى الكاتب إلى توثيقها في هذا الكتاب، تؤدي تلقائياً إلى سؤال المضاربة “ماذا كان سيحدث لو…؟”. فالواقع المعاكس هو دائمًا جانب من انشغال المؤلّف بالتاريخ.

 

ارتباطاً بهذه الفكرة، يؤكد المؤلف أنّ مرض صنّاع القرار يحدد بشكل حاسم مسار الأحداث، ويُقلق بعض المؤرخين، تماماً مثل انتشار الأوبئة والأمراض، فقد كشفت الدراسات العلمية أنّها هدّدت الناس في زمنهم وتركت بصمتها في وعيهم، وأنّ الطاعون الدبلي المسمى “الموت الأسود”، الذي وقع ضحيته نحو ثلث سكان أوروبا في منتصف القرن الرابع عشر تقريبًا، كانت له آثاره الاجتماعية والاقتصادية الكاملة. كما استمر مرض الزهري في أجزاء كثيرة من العالم لأكثر من 400 عام.

 

وتقول بعض الروايات إن لويس الرابع عشر وبعض الباباوات عانوا من هذا المرض التناسلي، وأيضا العديد من الفنانين مثل لودفيج فان بيتهوفن وفرانز شوبرت أو الشاعر الألماني هاينريش هاينه. ومع ذلك نجد أنه من الصعب تخيّل التطور الذي كانت أوروبا ستتخذه بدون كل هؤلاء الأشخاص.

 

ويحاول الكاتب الإشارة إلى إغراءات التكهن بكيفية سير الأمور في هذا الكتاب، فيرافق المؤلف بعض المرضى المشهورين في معاناتهم، فقد كان من المألوف إصابة ممثلي التاريخ بالأمراض في اللحظات الحاسمة، ما جلب عواقب مصيرية في أغلب الأحيان. وتنطبق هذه الفكرة على الفصلين الأولين من هذا الكتاب، وهما أهمّ فصلين عالجا تاريخ أوروبا، فقد حكم هؤلاء القادة بلادهم لفترة قصيرة جدا؛ لكنها كانت فترة حكم حاسمة ومهمة.

 

ويذكر المؤلف في الفصل الأول أنّ مرض الإمبراطور البروسي فريدريش الثالث (1831-1888) بسرطان الحنجرة قد دمّر جميع آمال البرجوازية الليبرالية في ملكية دستورية. كان الليبراليون يعتبرونه منارة الأمل. وهنا يمكن فقط التكهّن بمصير ألمانيا لو حقق الإمبراطور أحلام الليبراليين في دولة ديمقراطية. رغم ذلك يبقى التكهن قويا أنه ربما لو عاش الملك فريديش الثالث إلى 1920 لكان قد جنّب ألمانيا ويلات الحرب العالمية الأولى، ولكن ربما أن ولاءه للملكية وإصابته بسرطان الحنجرة كانا سببين في خيبة آمال الليبراليين.

 

أمّا في الفصل الثاني فيتساءل الكاتب عن النحو الذي كانت ستبدو عليه “الخريطة الطائفية البريطانية” لو لم تستسلم “ماري الدموية” (1516-1558) الأسطورية لورمها في وقت مبكر جدًا؟ فقد أرادت تيودور في القرن السادس عشر تحويل إنجلترا بوحشية إلى معقل للإيمان الكاثوليكي.

 

ويذكر الكاتب أنه لم يكن الورم السرطاني وحده السبب، بل إن ما يسميه الباحث في كتابه مرض “وهم الحمل” الذي جعل الملكة الإنجليزية تتوهّم مرتين أنها حامل بولي العهد من زوجها الأمير الإسباني، وصاحبه وهم آخر هو تحقيق الوحدة بين إسبانيا الكاثوليكية وإنجلترا البروتستانتية، كان دافعاً إلى ما سطّره التاريخ في تلك الفترة المظلمة من تاريخ بريطانيا. فهل كان وهم الحمل عند الملكة، ثم الورم، قد عجّلا بإفشال هذا المشروع؟

 

إن جملة الأسئلة التي طرحها الكاتب تشير بوضوح إلى أهمية الأمراض بالنسبة للتاريخ، والتي يتعامل معها المؤلف انطلاقاً من تاريخ مرض بعض الشخصيات التاريخية الهامة. وكذلك الشأن بالنسبة للأوبئة التي أثرت في مصير العالم من خلال انعكاساتها على الوضع الديمغرافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي. ومن أمثلة هذه الأوبئة يذكر المؤلف الكوليرا، آخر وباء كبير أصاب ألمانيا في 1892، ففي هامبورغ تصدّرت أخبار هذا الوباء عناوين الصحف، مما أساء إلى صيت المدينة عالميا. وكان مألوفا عند حدوث الأوبئة محاولة إيقاف الأخبار، كي لا يتأثّر الاقتصاد الوطني. أصبحت ألمانيا تعاني من الكوليرا ومن الحرب على حد سواء. وبعد انتهاء الكارثة الصحية في مدينة هامبورغ، تم سنّ قوانين جديدة بهدف تحسين ظروف المعيشة والصحة والنظافة والبيئة.

 

ومعروف أن الكوليرا تنتشر أيضا بين ضحايا الحروب، وفي وقتنا الراهن أصيب الآلاف من اليمنيين بهذا الوباء؛ فقد تُوفِّي هذا العام من جرَّاء الكوليرا ما يقرُب من 2000 يمني منذ أن بدأت فاشية هذا الوباء في الانتشار سريعاً في نهاية شهر أبريل. وقد صرح الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، قائلاً: “لإنقاذ الأرواح في اليمن، يجب علينا أن ندعم النظام الصحي… فالشعب اليمني لن يستطيع التحمل لفترة أطول -واليمنيون في حاجة إلى السلام لإعادة بناء حياتهم وإعمار بلدهم”.

 

أمّا الطاعون فقد تسبب في أكبر كارثة ديمغرافية في أوروبا. طرق الوباء أوروبا في القرن السابع عشر، ورافق تمدد الموت الأسود ظهور بعض مظاهر العنصرية. وبسبب ابتعاد الإنسان عن الحيوانات، وانتشار موجة النظافة البدنية بفضل أفكار عصر التنوير، تم إخماد الطاعون. وعرفت فترة ما بعد الطاعون تحسناً في الوضع الاجتماعي في أمريكا وأوروبا، فقد توفرت مناصب الشغل، وانخفضت الأسعار، وحصلت النساء على فرص للعمل في وظائف كانت محرّمة عليهم من قبل.

 

أمّا قصّة الجدري فهي جديرة حقيقةً بالتوثيق في هذا الكتاب، فقد كانت مثالية الاكتشاف البريطاني في اللقاح هديّة للعدو التقليدي نابليون. قام نابليون بتطعيم جيشه وابنه عام 1805 باللقاح الذي اكتشفه الطبيب البريطاني إدوارد جينر، فتراجعت الوفيات في فرنسا وفي العالم، وقدّم نابليون ميدالية للطبيب الإنجليزي تعبيراً عن شكره له، كما لبى الإمبراطور الفرنسي دعوة الطبيب له إلى إطلاق سراح أسيرين بريطانيين، وقال الإمبراطور الفرنسي: لا نستطيع رفض طلب أحد أعظم من قدم خدمة للإنسانية.

 

وهكذا ارتبطت مجموعة من الأسئلة والأجوبة، بهذه الشخصيات التاريخية والفنية المؤثرة في التاريخ، وبهذه الأمراض والأوبئة، ونعتقد أن أهم نتيجة لهذه الوقائع والأحداث؛ التكهنات والافتراضات التي وضعها المؤلف بخصوص مصير العالم.

 

وقد يستغرب القارئ هذه النتيجة التي توصل إليها الكاتب، لكن يجب ألا ننسى أنّ هذا الكتاب صدر قبل اجتياح فيروس كورونا ألمانيا وإيطاليا وإنجلترا وأمريكا وباقي دول العالم. لهذا، وربما، بنفس عدل منطق الكتاب، يحقّ لنا: كيف سيستطيع الكاتب صياغة أطروحة كتابه هذا لو أنه اشتغل عليه في شهر مارس 2020، أي بعد انتشار وباء كورونا والخسائر التي تسبب فيها وظهور السلوكات المرتبطة بانتشار الوباء؟ وربما نستطيع التكهّن أيضا بأن النتائج لن تختلف كثيراً عما أورده الكاتب، من خلال مجموعة من القضايا المرتبطة عموما بسلوك الدول والأفراد؛ ومنها: إخفاء المعلومات الحقيقية عن أسباب الوباء أو العدد الحقيقي لضحايا الوباء، احتكار السلع وانتشار هاجس الشراء، انتشار بعض مظاهر العنصرية والتهم المتبادلة، مظاهر سرقة المواد الطبية. وقد يكون التغيير الظاهر هو أن الوباء الجديد لم ينتشر في العالم عبر عربات البواخر الضيّقة فقط، كما حدث مع الكوليرا، ولكن أيضاً بواسطة الطائرات.

*باحث في الدراسات الثقافية المقارنة

المصدر 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى