الأخبارفضاء الرأي

يوم رحيل فتاة خالدة / فاضل محمد الهادي

الزميلة الراحلة جميلة بنت الهادي رحمها الله

لا أتذكر صغري كثيرا، لكن لا أنسى منه ما يتعلق بها، كانت لها ظفيرتان طويلتان، كانت بشوشة دائمة المرح و الفرح، رافضة لإزعاج أي كان، لم تكن تلك الفتاة مجرد رقم من أرقام الأزدياد في شعب موريتانيا العظيم، بل كانت جزءا من تحولات كبرى يعرفها البلد، تتجسد رويدا رويدا. تلعب بحبلها باحتراف، تغني بإحتراف، تمدح الرسول صلى الله عليه و سلم باحتراف، تتقن كل شيء تقوم به، حتى حين تناديني للمشاركة معها في حلقة “كاراتي” ترفيهية، كنت أقول لا أنا لا ألعب هذه اللعبة مع البنات، أنتِ بنتْ و أنا ولد، فتجيبني بضربة محترفة خفيفة على البطن، و هي تقول بنت ؟ بنت ؟ هذه البنت نالت منك، ثم تطرحني أرضا بلطف كأن لها قوى خارقة أشعر و كأني أنزل من السماء تتلقفني الغيوم، فيداها تنتقل في أجزاء جسمي بروية ثم ما ألبث أن أفتح عيني و أنا على الأرض، حتى الأرض التي سقطت عليها لم أشعر بها، فقط شعور بالقبطة و السرور، و رغبة كبيرة في إعادة المشهد، مرات و مرات، و كل مرة أصيح و أذرف “دموع التماسيح” كي يتكرر المشهد و تعاد الحلقة، ثم ما تلبث الفتاة أن تتعب و تتذمر و تقول بحسانيتها الرافضة للمسكنة : “يويلي منك و آن كاع لا يشقيني أمعيطالك لاش”، و مع ذلك لا تفارقها الابتسامة، ثم تنادي الوالدة : ماما أحكمي عني ذه المنسوخ” كم كنت أحب ذلك اللقب، كم كنت أتمنى أن كون مدى الحياة “منسوخ” بالمفهوم الذي تقصده هي، ذلك المعنى الذي يشي بالحب و المعزة، بالقرب و الألفة، المعنى الذي يجعل مني أسعد أخ لأجمل أخت، قلت في منشور سابق، أنها كانت لي “أخت كبرى” نعم و الذي بعث محمد بالحق، كانت أكثر من أخت كانت أم صغرى و كأن الله لم يكتفي بأن يجعل لي أمهات كبريات فجعل لي أما صغيرة لا تكبرني إلا بحولين.
تلك هي في صغرها، كانت كل زياراتي لأنواكشوط تشعرني بالسعادة، و أينما ذهبوا بي لا بد لي من أيام أقضيها مع “فطمة” تلك الجميلة جميلة الروح، جميلة الوجه، جميلة الصفاة، جميلة المنبت و المنبع و الأصل، جميلة الملبس، جميلة حتى أنها تجعل من صديقاتها ملكات، كنت حين أسافر إلى أنواكشوط، أشعر أني لا أزال بعيدا عنها، لكن حين أصل بالفعل إلى “الميناء” و يطرق باب الدار، و أسمع الوالدة “مامه” تناديها يا فطمة إفتحي الباب، أشعر بسعادة و أتمنى أن أتحول طائرا لأشاهدها من الخلف تفتح الباب و أخيفها على طريقتي، و حين تفتح الباب أتوارى خلف الوالدة، فتصيح فطمة عند رؤيتها و تقول : هذي “صفي” ثم ما تلبث أن تسألها هل جاء معك “المنسوخ” ؟ فأخرج من خلف الوالدة أطال الله عمرها، و أصيح كالغول، فتقول : “أتفك أخلعتني ينسخك” و تضحك و هي تضمني إليها، فأشعر بدفء الأمومة، أشعر أني خرجت من عباءة أم إلى ذراعي أم أخرى.
و تدور الأيام، ثم تدور و تدور، ثم تكتمل الأمومة بأمومة أخرى أغلى و أعز، فطمة لم تكن أختا فقط، لم تكن إبنة عم فقط، لم تكن إبنة خالة فقط، بل كانت أكثر من ذلك، كانت جزءا لا يتجزء مني، كانت أقرب من الجميع، كانت و لا تزال بضعة مني.
فطمة أو جميلة أو النانه أو أجويت، أو أمبيركه، كما يحلوا للوالدة أطال الله في عمرها أن تناديها.
مناقبها و فضائلها على الخلائق كثيرة، فمن عرفوها أحبوها، سواء في الدراسة أو في العمل أو الحياة الأسرية و الاجتماعية.
لم أكن أتصور أنها سترحل، و بما أنها رحلت، و لم تعد بيننا، فقد وجب البوح بكثير مما كانت تطمح له، فلفطمة طموح على مستوى الاسرة، و آخر على مستوى المجتمع الضيق، و آخر على مستوى السلالة البشرية الطاهرة الشريفة التي تنتمي إليها، و لها أيضا طموح على مستوى الوطن و الأخوة و الوحدة الوطنية، فكانت تسعى للتعريف به، و لأن يفهم الجميع أن هذا الوطن ليس ملكا للبعض دونا عن البعض الآخر، كانت تعرف جيدا ما يجري، كانت تفهم جيدا ما يحدث في أروقة الدولة و ما يسعى إليه كل رجل من رجالاتها، كانت تفرق بين الوطنيين و اللاوطنيين، كانت تحب من يحب هذا الوطن، و تكره من يكرهه.
تحب أسرتها حبا لا يمنعها من توجيه كل فرد من أفرادها توجيها سليما منطلقا من ثوابت الدين و من ضوابط المجتمع و أخلاق التعايش، لم تزرع في أي إنسان من حولها عنصرية و لا جهوية و لا قبلية، لم تجعل شخصا ممن عرفتهم يميل بكفته إلى اتجاه لا يحبه، لم تقنع نفسها يوما أن تكون غيرها، لم تقم يوما بواجب على سبيل المراءات و لا على سبيل العُجب لم تبحث يوما عن الشهرة، رغم شهرتها في مشارق الأرض و مغاربها، رغم علاقاتها الواسعة لم تكن كثيرة الاسفار و لم تكن تسعى لأن ترتبط بوطن غير وطنها كما تفعل الكثيرات من بنات عصرها.
ساهمت فطمة في جمع شتات بني “محمد الشريف” الملقب “بوبزول” فجمعتهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي و ساهمت معهم في ترسيخ أواصل القربى، و بناء جسم يعتمدون عليه كان لها الدور الكبير في القيام بكل ما يجب من أجل جمع شتاتهم و تعريف بعضهم ببعض، كانت تصبح عليهم و تمسي بالسلام و الايمان و الدعاء، و تذكرهم بالابتعاد عن السياسة و الالتقاء على المحبة و اسعاد الناس.
ساهمت اسهامات كبيرة في تطوير الاعلام و يكفي أنها من بين أوليات النساء العاملات في الحقل الاعلامي الخاص ولجت إليه بقناعة و تمسكت به و ناضلت من أجل قيمه و رسائله النبيلة الفاضلة كاسرة بذلك قواعد رجعية يتبناها مجتمعها الضيق، فجعلته أدات لتثقيف المجتمع، و لم تستخدمه لمصالحها الضيقة و لم تجعل من نفسها أداة في يد أي كان، و لم تقبل يوما أن تشارك في غير ما يجمع الفاعلين في الحقل و لم تدخل صراعاته الكثيرة و لا خنادقها الموبوءة، كانت دائما بارزة بوطنيتها و بمحبتها للجميع.
حتى و الاعلام متعطل و البرامج معطلة لم تتوقف فطمة عن العطاء فقامت بمقابلات على “الواتساب” و حاورت ضيوفا كبارا في مجالات الثقافة و الفن و الأدب.
تلك هي أفعال الخلود، تلك هي صفاة الفتاة الخالدة و أعمالها و كل ما زرعت من خير و فضل، ذلك ما جعلني أقول أن فطمة محمد الهادي أو جميلة (إسم الشهرة) رحلت و هي خالدة في وجدان كل موريتاني يقيم وزنا للمعروف من القول و العمل.
برحيل فطمة يبلغ الحزن مداه في ربوع هذا الوطن الحبيب، فلن يبقى شجر و لا حجر و لا هضاب و لا سهول إلا و ذاقت جزءا من الحزن على فطمة و لن تنجوا الدواب، أحرى أن يبقى انسان عرفها و لم يحزن لفقدها، رحم الله فطمة محمد الهادي رحمة واسعة و أدخلها فسيح جناته و ألهمنا الصبر و السلوان و إنا لله و إنا إليه راجعون.
محمد فاضل الهادي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى