مقالات و تحليلات

من ماسينيسا إلى بوتفليقة: رهانات الجزائر في الاستقرار والاستمرار/ د. عبدالله راقدي

 

د. عبدالله راقدي/ أستاذ العلاقات الدولية جامعة باتنة

شكلت  ثنائية الاستقرار والاستمرار منذ القديم أهم تحد ظل يؤرق قادة وزعماء أنظمة الحكم في الجغرافيا التي تشغلها جزائر اليوم،  إذ لا تمر فترة حتى تشهد اضطرابات ونزاعات وحروب تؤدي بها في النهاية إلى حالة من الفوضى  والضعف والعجز تسهل أمر احتلالها من قبل القوى الخارجية. ومثل هذه الظروف هي التي جعلت أطول عمر دولة لا يتعدى 60 سنة لمملكة نوميديا (مملكة ماسينيسا). وهي الظروف التي تظل سائدة إلى يومنا هذا مع الدولة الجزائرية المستقلة بل وأشبه بحال هذه المملكة،  على اعتبار أنها –الجزائر- تشغل تقريبا نفس الجغرافيا التي كانت تمتد عليها، وتواجه ظروف وتحديات داخلية وخارجية كتلك التي واجهها عرش ماسينيسا. فهل ستساهم دروس وعبر التاريخ في تشكيل الوعي الذي يؤمن اعتقادا بضرورة المحافظة على أمن واستقرار الدولة ومن ثم استمرارها في الوجود وتلافي أسباب التنازع والفرقة المفضي إلى إفشال هذا الحلم؟ وهل النخب قادرة على درأ مخاطر النزاعات الداخلية ( السلطوية) والتدخلات الخارجية كما حصل مع مملكة نوميديا أم ستجد نفسها متورطة في لعبة الكبار بدون وعي ومن ثم تحكم على نفسها بأنها تنتمي لشعب  لا يعرف كيف يحكم؟ والإجابة على مثل هذه الأسئلة كفيل بالحكم على أن  جزائر اليوم تشكل استثناء الاستثناء أم  أن “حليمة لا يمكن أن تتخلى عن عادتها القديمة”.

انهيار  نوميديا :  خطأ ماسينيسا في ترتيب مسالة إنتقال السلطة

    أستطاع الملك الامازيغي ماسينيسا الذي عاش من 238 ق. م. – 148 ق. م توحيد مملكة نوميديا​​  وجعل مدينة سيرتا (قسنطينة حاليا) عاصمة لمملكته الممتدة شرقا من مقاطعة افريكا (حاليا تونس) إلى مملكة موريطنية غربا وإلى الجنوب الصحراء الكبرى  وشمالا البحر المتوسط. ويكاد يكون نفس الإقليم الذي تشغله جزائر حاليا. ورغم طول فترة ملكه ( 60 سنة) من 202 ق.م إلى 148 ق. م لم يتسنى له وضع آلية انتقال الحكم لأبنائه بما يحفظ مملكته من التنازع والصراع. ولقد ترتب عن ذلك نشوء خلافات على الحكم بعد وفاته بين أبنائه الثلاثة، وهو ما حفز روما على التدخل وتعميق الصراع ومن ثم الدفع في إتجاه تقسيم الملك بينهم ( مكيبسا، غيلاسا، ماستانابال). حاول يوغرطا الحد من هذا التدخل والنفوذ عبر مقاومة دامت 7 سنوات، بيد أنه وبسبب ضعف الإمكانيات  والخيانات فقد انتهى المطاف( بيوغرطة) الثائر المقاوم الرافع لشعار ” إفريقيا للأفارقة” في سجون روما والتي مات ودفن فيها.  وقد كتب في هذا الشأن محمد شفيق يقول: كانت روما تخطط للسيطرة على شمال أفريقيا من خلال ضرب الأمازيغيين بالأمازيغيين، وتسليطهم على الفينيقيين الموجودين بقرطاجنة لكي يفسح للحكومة الإيطالية المجال من أجل الانقضاض على كل الممالك الأمازيغية:”

مسار  الدولة الوطنية: داخل متحفز  وخارج متربص

         مما لاشك فيه أن الدول التي تفتقد لماضي إمبراطوري كالجزائر تواجه الكثير من الصعوبات  والتحديات في مواجهة تداعيات سياسات القوى الكبرى الهادفة لممارسة النفوذ والهيمنة. وفي هذا المقام يمكن الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى انعكاسات العولمة الليبرالية على فكرة الدولة وعلى أدوارها ووظائفها. فلقد سعت قوى العولمة إلى إعطاء دور لقوى المجتمع على حساب الدولة التي  أضحت في نظرهم غير قادرة على ضمان ممارسة أساسيات الديمقراطية والتمتع بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان. ففي مثل هذه الظروف الجديدة واجهت الجزائر هذه  التداعيات الخطيرة وهي لا تزال في بداية مسار الترسيخ والتمكين كفكرة وكوجود في مجتمع متشبث بالماضي وبالممارسات التقليدية.

        هكذا وجدت الجزائر نفسها مجبرة على الانخراط في مسار إصلاح سياسي واقتصادي مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي ( أحداث 5أكتوبر 1988). فالبرعم أن مطالب تلك الأحداث كانت مرتبطة بمسائل تحسين ظروف المعيشة إلا أن الحكومة باشرت إصلاحات سياسية بعد استفتاء فيفري 1989. فبموجب ذلك اعتمدت أحزاب سياسية        ( أكثر من 60 حزب سياسي).  برز انقسام حاد في  المجتمع  بين تيار إسلامي وتيار علماني ديمقراطي في ظل انكفاء التيار الوطني. هذا الأخير أصبح مشروعه بل أسس الدولة التي أقامها محل شك وتساؤل كبيرين.  في ظل هذه الأجواء أجريت الانتخابات ( المحلية والبرلمانية) فاز فيها إسلاميو جبهة الإنقاذ. غير أن الجيش تدخل وأوقف المسار الانتخابي بدعوى تهديد الإسلاميين للطابع الجمهوري للدولة الجزائرية بل وان هذا التيار ليس سوى أداة في يد قوى العولمة.   ولقد أدى ذلك ( توقيف المسار الانتخابي) إلى نشوء نزاع مع الإسلاميين والذي سرعان  ما تحول إلى حرب مع مشروع ارهابي عابر للحدود. أخذ الصراع مسار دراماتيكي واستمر  لأكثر من 7 سنوات وكان جد مكلف (  أكثر من مئة ألف قتيل  وخسائر مادية بعشرات المليارات الدولارات). رغم التكلفة الباهظة التي تكبدتها الجزائر في حربها ضد الإرهاب وعبره في مواجهة لمشروع الفوضى الخلاقة التفكيكي التهديمي، فقد استطاعت في النهاية دحر الإرهاب وتحقيق السلم والمصالحة والوئام ومنعت بذلك على الدولة الجزائرية التفكك والانهيار.

رهانات بوتفليقة: بين دروس التاريخ ومحاذير الواقع.

        يصادف وجود الرئيس بوتفليقة على رأس هرم مؤسسات الدولة الجزائرية بلوغ عمر الجزائر 60 سنة                          (نالت استقلالها عام  1962)، وهي بهذا الموقع وهذه الجغرافية المتنوعة والغنية (بلد زراعي بامتياز وبثروات معدنية كبيرة  البترول والغاز أساسا) تواجه تحديات داخلية وخارجية كبيرة، لعل أبرزها ما يتعلق  بطبيعة وهوية النظام ومن ثم بدور للدولة في نظام دولي لا يؤمن إلا بالقوة (نصيبك من الكعكة يتوقف على نسبة القوة التي بحوزتك).  وهنا تطرح تساؤلات من قبيل، هل تملك الجزائر في هذه الفترة الحساسة من عمرها ومن انعكاسات سياسات قوى العولمة  الوعي والإمكانات والخيارات التي تمكنها من المحافظة على الأمن والاستقرار صمام أمان وجودها واستمرارها في المستقبل؟ بعبارة هل تملك القوة التي تسمح لها بالمراهنة على مكانة لها تمكنها من تحقيق أمنها واستقرارها؟

        تعتبر 2019 حيث تتهيأ الجزائر لإجراء انتخابات رئاسية محطة هامة في اتجاه ضبط بوصلة مسار الأحداث في الجزائر، لاسيما في ظل وجود نقاش حول مسالة  ترشح الرئيس بوتفليقة من عدمه لعهدة خامسة. وفي حالة عدم ترشحه، ماهي الشخصية التي يمكن الرهان عليها، هل تكون من مدرسة الثورة التحريرية أو من الجيل الجديد؟ ومن ثم ماهي ضمانات عدم الانقلاب على ميراث يمتد لعقود. ورغم أهمية مثل هذا النقاش تبقى مسالة استقرار الأوضاع مسالة لا تحتمل أي سلوك قد يؤدي إلى تهديد كينونة الدولة ، فلا ديمقراطية ولا تعددية ولا حقوق الإنسان في ظل عدم انهيار الدولة.  لاسيما في ظل وجود تهديدات وجودية ذات صلة ببروز خطاب مطلبي هوياتي متشنج مهدد لوحدة الأمة الجزائربة  كدعوة فرحات مهني إلى تشكيل مليشيات مسلحة من أجل إستقلال منطقة القبائل)، فضلا على التهديدات الأمنية العابرة للحدود من منطقة الساحل جنوب الصحراء ذات التقاطعات والتداخلات العرقية واللغوية ، والنزاع اللبيي الذي يتجه نحو تكريس تقسيم ليبيا. فمثل هذه التهديدات التي لاشك سيجري توظيفها من قبل القوى التقليدية في حوض المتوسط (وريثة الإمبراطورية الرومانية) أو الأطلسية أو غيرها، يجب أن تحفز اكثر المهتمين باستحقاقات 2019 إلى التفكير مليا من اجل إيجاد تسويات تنأى بالجزائر عن الدخول في المجهول الذي يبرر للقوى الخارجية بالتدخل من اجل التأثير في الأطراف المتصارعة وفق النظرية التقليدية ” فرق تسد”.  وإذا ما فشلت النخب في إدارك حجم المخاطر أو راهنت على دعم قوى الخارج كما يفعل البعض فستجد  نفسها في النهاية تؤدي دور المناول الظرفي في إدارة كانتونات (مقاطعات) في انتظار تهيئة ظروف وشروط الممارسة الإمبراطورية المباشرة لمن أوكلوا لهم مهمة الاختلاف والتنازع. أما من يرفض الانخراط في اللعبة أو المؤامرة على حلم الأجيال  فسيجد نفسه مقاوما  لأصحاب المشاريع التفكيكية الاستعمارية. ولاشك أنه سيواجه رفض وتنديد واستنكار وغضب القوى الراعية لأدوات التفكيك التي ستتكفل بتوجيه الاتهامات وإصدار القرارات المطالبة والداعية لمحاصرة ومحاربة مهددي الاستقرار والأمن العالميين أو السلم الليبرالي. بل ورفع دعاوى قضائية على الخارجين عن القانون وعلى سلمهم ومحاكمتهم من اجل إدانتهم والزج بهم في سجونهم. إنهم أوفياء لتاريخهم بل تلاميذ نجباء،  فكما أدانت روما يوغرطة قديما ، هاهي محاكم باريس وجنيف تحاكم الجنرال خالد نزار لإدانته والزج به في سجونهم بدعوى انتهاكه لحقوق الإنسان ( ذنب الجنرال نزار أنه قائد للجيش أوكلت إليه مواجهة مشروع  ضرب استقرار الجزائر وتفكيك الدولة الجزائرية حلم الشهداء والأحرار  في العالم).

                وأخلص إلى أن الضرورة تقتضي في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الجزائر الاستفادة من  تجارب هذه المنطقة لاسيما تجربة مملكة ماسينيسا التي رغم  شساعتها  أراضيها وقوتها فقد انهارت ولم تتجاوز ( 60 سنة)، وينبغي جعل 2019 محطة لتكريس الاستقرار من أجل الاستمرار والانطلاق نحو المستقبل وإعلان القطيعة مع  منطق  “قصر عمر الدولة” الظاهرة الملازمة لدول هذه الجغرافيا بما يساهم في جعل مسار الدولة الوطنية استثناء الاستثناء، وحينذاك فقط يمكن المراهنة على تحولها إلى فاعل محوري، أما في حال أي إخفاق فسيدفع بها لتأدية دور “مفعول فيه  أو مفعول به “.

E-mail: [email protected]

المصدر:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى