أخبار موريتانياالأخبارمقالات و تحليلات

من هو يحيى ولد حامدُون؟!

الشروق الجزائرية/من هويحيي ولد حامدون/ أبو بكر خالد سعد الله/أستاذ جامعي قسم الرياضيات / المدرسة العليا للأساتذة- القبة

يحيى ولد حامدُون
دُفِن المرحوم عام 2011 بجانب قبر جده الذي كان من أبرز المثقفين في موريتانيا وفي العالم العربي. أما أبوه المختار (1897-1993)، الملقب بابن خلدون الموريتاني، فهو المؤرخ صاحب موسوعة “الحياة الموريتانية” الضخمة التي قضى في إعدادها نحو نصف قرن. وقد تأثر المختار في بلاد السنغال بالثقافة العربية من خلال معاشرته لأهل الشام الذين بلغ عددهم في تلك البقاع قبل الحرب العالمية الثانية 4 آلاف نسمة. ثم انتقل المختار إلى المدينة المنورة عام 1982 وفضّل الإقامة فيها حتى وفاته عام 1993.

من موريتانيا إلى مصر

ولد يحيى ولد حامدُون في قرية أطار (مورتانيا) عام 1947، وحفظ القرآن الكريم، ودرس العلوم الشرعية واللغوية في البيت العامر بالعلماء. ودخل المدرسة الابتدائية عام 1959، ولم يتجاوز فيها 3 سنوات حتى أنهى كل مراحلها. ثم تحوّل إلى معهد بوتلميت عام 1962، وهو أشهر معهد في موريتانيا كان يمزج بين العلوم الحديثة والتقليدية.
وفي عام 1964 انتقل يحيى إلى القاهرة لمواصلة دراسته الثانوية، ثم الجامعية في مجال الرياضيات والعلوم، وعاد منها عام 1971. وأصبح أستاذا لمادتي الرياضيات والفيزياء في الثانوية الوطنية بنواكشط حتى عام 1975… فأبلى البلاء الحسن.
أراد يحيى مواصلة دراسة الرياضيات فقصد فرنسا ملتحقا بجامعة السربون في منتصف السبيعينات، وانتهى مشاوره الدراسي عام 1980 بشهادة التبريز، ثم الدكتوراه في الرياضيات. ونظرا لقدراته استطاع بسهولة الانتساب، كباحث، للمركز القومي للبحوث العلمية (CNRS) الفرنسي عام 1979. وظل في هذا المركز يعمل باحثا في الرياضيات حتى رحيله عام 2011.
كان يحاضر في عديد البلدان بلغات مختلفة، منها الفرنسية والعربية والإنكليزية والإسبانية. وصدر له في المجلات العالمية -منذ 1977 حتى رحيله- 98 بحثا أصيلا في الرياضيات. أما مجال اختصصه الضيّق فهو نظرية الأعداد والتوفيقيات (combinatorics). لكن قاعدة البيانات الدولية (الألمانية) التي تعرض أعمال كل الباحثين في الرياضيات تشير إلى أن هذه الأبحاث تمت الإحالة إليها في 25 فرعا من فروع الرياضيات.

موريتانيٌ شهْمٌ/من المعروف أن يحيى كان معتزا بوطنه، موريتانيا، مع أنه كان يعمل خارجها، ولم يطلب أية جنسية أجنبية رغم إغراءات عديد الدول الغربية إذ ظل بجنسيته الموريتانية دون غيرها حتى رحيله. وكان يزور قريته على الدوام متأملا بحنين في مسقط رأسه، بعيدا عن الأضواء السياسية والإعلامية. ولم يبخل على بلده يوما مما لديه من علم، وكانت له عديد المبادرات من أجل ترقية التربية والتعليم في موريتانيا، سيما في تكوين النخب.
وإثر وفاته كتب عن سيرته ومكانته الكثير من أهل الاختصاص، ناهيك عن الإعلام الموريتاني. ونذكر بوجه خاص جمعية الرياضيات الفرنسية (SMF)، وكذلك جمعة الرياضيات الأمريكية (AMS).
يقول الباحث الفرنسي ألان بلانييه Alain Plagne، عن أستاذه يحيى مبررا عدم ترقيته إلى أعلى المراتب في مركز البحث : ” في فرنسا، أظهر نظام الترقيات مساوئه إذ لم يمنح يحيى أبدًا لقب ‘مدير الأبحاث’، وهو لقب كان يستحقه بوضوح لعمله العلمي منذ نهاية الثمانينيات… إن النظم البشرية غالبا ما تفضل أولئك الذين هم أمثالهم”. ثم يردف : “الحقيقة ترغمنا على القول بأن يحيى كان أصيلا، رياضياتيا، وأيضا أصيلا برزانته وتواضعه، وبرفضه الحلول الوسطى؛ وكان أصيلا بنزاهته الأخلاقية النقية”.

موهبة عاليةوصفه المشرف على أطروحته الفرنسي ميشيل لاس فرنياس Michel Las Vergnas (1941-2013) بقوله إن يحيى ذو “موهبة عالية”. وقد تمكّن يحيى من إيجاد براهين مبتكرة على نظريات رياضياتية معروفة، كما عمّم بعض النتائج وطوّر أخرى. وليس هذا فحسب، بل من بين المخمّنات التي حلها يحيى مخمّنة كاسيتّا-هاكفيست Caccetta-Haggkvist التي طُرحت عام 1978 وأتى عليها المرحوم عام 1987.
ولعل ألمع نتيجة توصل إليها يحيى هي الإجابة عن مخمّنة إردوش-هيلبرون Erdos -Heilbronn التي وُضعت عام 1964، وحلها يحيى مع أحد زملائه عام 1991، لكن الحل لم ينشر إلا بعد 3 سنوات. وفي 1975 أتى عالم الرياضيات جورج ديدريخ Diderrich George بمخمّنة تحمل اسمه، وقد استطاع يحيى، بمعية أحد زملائه، حلها عام 1999. ومن آخر المخمّنات التي حلها يحيى مخمّنة طرحها عالم الرياضيات الأسترالي الأمريكي تيرنس تاو Terence Tao الحاصل على ميدالية فيلدز عام 2006.
ذلك ما يثبت حقًا أن يحيى عالم رياضيات من الطراز الأول. فمن المعلوم في وسط الرياضيات أنه إذ عجز أحد كبار علمائها عن البرهان على مسألة، وتصوّر نتيجتها قام بصياغتها في شكل يُصطلح على تسميته “مُخمنّة” (conjecture)، وينشرها كمسألة مفتوحة ليبرهن عليها من يستطيع إليها سبيلا. وكلما طرحت مخمّنة جلبت إليها أقواما كثيرة من الباحثين “يسهرون ويختصمون” على حلها، حسب وصف المتنبي لقراء شعره. وفي هذا السياق، نشير إلى أن هناك من المخمّنات ما تم حلها بعد أزيد من 3 قرون، وثمة ما مضى اليوم أزيد من 160 سنة على طرحها، ومازال مشوارها لم ينته بعد.
وقد نعَتْ يحيى العديد من الجهات العلمية في الغرب، وكذا في موريتانيا. وتخليدا لاسمه قررت السلطات الموريتانية عام 2012 تأسيس جائزة سنوية للرياضيات والمعلوماتية تحمل اسمه موجهة للشباب اللامع.

جهل وتقصيروالواقع المؤسف أننا لم نكن نسمع بهذا العالم الموريتاني الكبير قبل شهرين. وصدفة لفت انتباهنا إليه زميل فيزيائي حين سأل عن مكانة يحيى وعن صحة ما ورد من أخبار حول عبقريته. وهذا ما جعلنا نبحث عن سيرته بشتى الوسائل. وفي سياق ذلك، سألنا عنه عديد الزملاء الجزائريين الجامعيين، أساتذة الرياضيات المقيمين داخل البلاد أو خارجها، فظهر أنهم جميعا لم يسمعوا به قطّ، عدا زميل واحد من العاصمة فرع اختصاصه قريب مما كان يبحث فيه المرحوم يحيى!! وهذا مخجل حقا لنا جميعا.
في كتاب صدر بالفرنسية عام 1994 بعنوان “مدخل إلى تاريخ الرياضيات بالمغرب العربي” قدم مؤلفه المغربي إدريس لمرابط سيرة وأعمال 318 رياضياتيا من المغرب العربي الكبير -من موريتانيا إلى ليبيا- منهم 250 نشطوا بالبحث في الرياضيات والكتابة فيها وتدريسها من بداية القرن 8م إلى بداية القرن 19م. ويعلم مؤرخو العلوم أن كثيرا من مخطوطات هؤلاء العلماء وسيرهم لا زالت مغمورة وتحتاج إلى من ينفض عنها الغبار.
وقد أحصى إدريس لمرابط في كتابه نحو 150 رياضياتيا في منطقة المغرب العربي من بداية القرن 19 حتى منتصف القرن العشرين. فلو نقّح ووسع هذا المؤرخ كتابه، وغطّى النصف الثاني من القرن العشرين لوضع يحيى ولد حامدُون في رأس القائمة كامتداد للنشاط العلمي الذي جمع بين المشرق والمغرب… ولسجّل لنا أعماله ورحلته من مسقط رأسه في موريتانيا إلى القاهرة، ثم إلى نواقشط وباريس، وبعدها إلى مثواه الأخير في مسقط رأسه!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى