الأخبارقضايا المجتمع

بؤس الوعي الطبقي…/ إشيب ولد أباتي

لقد كتب الدكتور محمد الراظي مقالا تحت عنوان” القبيلة والدولة في موريتانيا وجدلية الصراع”، في موقع “صحراء  ميديا”، وقدم مقاربة جيدة، وضمنها  حلولا قد تبادر الى تفكيره  انها بمثابة “مصل” لعلاج الظاهرة المزمنة، كداء، لكن لعله مثل داء الشاعر “مطران خليل مطران” في قوله:”

داء ألم فخلت فيه شفائي ..من صبوتي فتضاعفت برحائي”

نظرا لان التوصيات التي قدم في آخر مقاله،  لاترقى الى حلول فكرية، وانما هي حلول عملية مسعجلة، والأخيرة لن تنجح كتفكير موضوعي يشكل  تصورا نظريا توعويا،  بديلا للاتفكير العام  الذي ينعدم  فيه تقديم حلول لمشاكل الفرد، والاسرة، والنظام السياسي،  والانتقال بالمجتمع القبلي الراهن،،

 الى  الطور الحضاري لمجتمع الدولة الحديثة.

 لأن ذلك يحتاج الى  تشكيل وعي جديد يتفاعل فيه الحراك الاجتماعي السياسي مع المستجدات،،، ولكن قبل ذلك،  سيبقى الوعي الانتهازي  القبلي الجهوي، العرقي الذي يوجهه  العقل الجمعي العام واجهات امامية للواقع الاجتماعي القبلي التفكيكي…

وقبل نقاش الدكتور في توصياته،، تعالوا بنا لنتوقف مليا  لنر ى ما جاء في  مقاله ـ المنوه به من طرفنا ـ

فوفق مناهج البحث العلمي، وتوظيفها في فهم الظواهر  وتحليلها باعتبار ان صاحب المقال أكاديميا، ولذلك حري بنا  ان نناقشه على ضوء الفكر الاكاديمي..لا كتابة مقال لتسجيل موقف مما كتبه فحسب….

فما هي الشروط الأولية في البحث العلمي؟

انها باختصار  تحديد المفاهيم، والمنهج، والرؤية، وقد اشار  الدكتور  الى واحدة منها فحسب،  حين عرف القبيلة، واقتصر على ذلك، وتناثرت في مقاله مصطلحات كالدولة،  والحق، والقانون، والديموقراطية، وهذه مصطلحات “مونتسكيوية”، ومعروف عن الاخير انه كان محافظا،  واسس لاتجاه يناهض التغيير،، ولأن الدكتور لم يكلف نفسه عناء في تعرفيه  لهذه المفاهيم، فهو يحيل ـ  ضرورة  ـ الى تحديداتها في الفكر القانوني الحديث  المحافظ، فهل يتماشى ذلك مع الرؤية التغييرية التي ارادها الدكتور في مقاله؟

 

اما من جهة تحديد المفاهيم، فقد تفضل بإحالة القارئ الى “العصبية” في فكر ابن خلدون،  لكن فات الدكتور  انها  عامل ذهني، قد يكون عرفا متداولا غير مكتوب، وقد يكون مكتوبا كالمعاهدات بين القبائل ..وقد توظف العصبية  في التناحر الداخلى في  القبيلة، وقد توظف للقوة، فتدعم شوكة القبيلة،، كما وظفت تاريخيا للحكم، وقد حالفها النجاح تارة، لكنها اخفقت مرات عديدة في اسقاط الانظمة المهترئة في المدائن والحواضر الكبرى،،وكان نجاحها مرتبطا بظرفية  حين تنعدم آليات الدفاع من جيش او غيره.. وهذا الذي اشار اليه”عبد الرحمن  ابن خلدون” في القرن الرابع عشر في قراءته للتغييرات الاجتماعية السياسية في حوادث التاريخ…

 لكن الدكتور رجح تعريف  القبيلة على اساس  التحليل الطبقي في  الفكر الماركسي  مثل فئات المجتمع الأخرى،

حين حدد وجودها  بملكية الأرض، على غرار تحديد طبقة العمال بقيمة العمل اليومي ، والطبقة البرجوارية

بالملكية التجارية، والملكية للضيعات في النظام الاقطاعي…

 

فهل كانت الاشارة الى تعريف القبيلة بملكية الارض ،اشارة من الدكتور  الى النظام الاقطاعي، ؟

و هل تكفي ملكية الارض من طرف قبيلة ما، او عدة قبائل   حتى يكتمل نظام  النبلاء يادكتور..؟

وفي كل الاحوال، فان هذا التحديد  جعل من العلة معلولا، والمعلول علة،، اليس مالك الأرض،  سابقا على ملكيته؟

ولن نذهب في  توصيف منهج الدكتور بما قال   “ماكرس” عن “الجدل”عند “هيجل”  بانه امشاه على رأسه …

 

فعلماء الاجتماع  ـ مثال دوركايم ـ حددوا العلاقات الاجتماعية في نظم المجتمع،  ومنها  المجتمعات الأولية ، بقانوني القرابة، والدين…

اما وحدات المجتمع، فهي: الاسرة النووية، والاسرة الممتدة التي تعرف بها القبيلة، وذلك  قبل تعريف الدكتور للقبيلة  في مقاله…

ولعله تحاشى بعض التعريفات في الفكر العربي لماركسيين اكثر مقاربة من تعريفه حين  ابتكروا مفهمي “البدوتاريا”، والمدنتاريا”،،

بينما في علم الاجتماع، هناك ظواهر  اجتماعية لتحديد العلاقات في المجتمعات المعاصرة  كالوظيفة، والتخصص، والدور،،

لكن ما علينا، فربما كانت مراجعة  الدكتور في تعريفه  للقبيلة، تجيز لنا  ان نساله عما هي اسباب تجاهله للمنهج التاريخي في دراسة ظاهرة القبيلة، وهذا  الذي يؤدي الى الاطلاع على العوامل التي ادت الى نشاة القبيلة، او استئنافها وهذا الأخير  نحن  نميل اليه في ان مجتمعنا  عرف خلال فترة النهضة العربية الاولى على عهد المرابطين، وحدة اجتماعية حضرية، انصهرت فيها التكوينات الاسرية ـ القبليةـ في مجتمع حضري، ولكن بعد سقوط الاندلس، وفي فترة  الاحتلال البرتغالي ابتداء من  القرن الخامس عشر الميلادي،ادى الى  تفكك الوحدة الاجتماعية التي تعرضت للتدمير، كالمدائن  التي كانت معروفة في كتابات الرحالة والمؤرخين، ومن المدائن التي اندثرت: مدينة “ارتنيني”، و “مدينة ” أودغشت”، ومدينة “أوليلي”، ومن المفاهيم الدالة على التدمير الذي تعرضت له  المناطق، نلاحظ مفهوم  “تيدرة”  الذي تسمى به الجزيرة، وتعني المقبرة،،

ونظرا لغياب المعلومات التاريخية فان التقدير لدى بعض الدارسين الاجتماعيين، انه وقعت هجرات من المدن الى الارياف،  وذلك ـ ربما ـ بعد مواجهات غير متكافئة، ادت بالمجتمع  للانتقال من المدن المحتلة الى المناطق الجبلية،  والصحاري،،  حيث استعاد المجتمع شروط العلاقات الاجتماعية الأولية،،

ومن المؤشرات  الدالة على  التأثر بحياة الحضر قبل  التريف، المظاهر الفكرية التعلقة  بالمعرفة..فضلا عن انواع  الفنون والاداب الاجتماعية كمكون في ثقافة  المجتمع، مثل الموشحات الاندلسية التي لازالت  تتردد على السنة  العامة  في مناسبات الاعياد الدينية، كعيد المولود وغيره…

 

ان الهجرة من المدن بعد احتلال الأخيرة  من الغزاة البرتغاليين ، ادت الى  ظاهرة  القبيلة المستأنفة،، وقد  تكررت هذه الظاهرة في التاريخ العربي العام  فبعد احتلال “التتار” لبغداد، ومدائن العراق،  واحتلال “الصلبيين” للقدس، ومدائن فلسطين،،  وحديثا في القرن الثامن عشر فيما سمي

  ب”حملة” احتلال   “نابايون بونابرت”  لمصر وفلسطين،  حيث سجل المؤرخون العديد من الهجرات من الحواضر  المحتلة الى غيرها من المدن، والى  الارياف، واستانفت الأسرة الممتدة ـ القبيلةـ. .

 

اماعن ظاهرة  ملكية الارض التي تحدث عنها الدكتور،  فلعلها لم  تكن العامل الاساسي في الملكية العامةفي المجتمع على خلاف الحال في النظام الاقطاعي..، لان المجتمع الذي  قصد الكتور في دراسته هو مجتمع  رعوي،، ومظاهر ملكية الاراضي، اما انها ارتبطت بالقرن الثامن عشر ،حيث ظهرت الإمارات،  وكانت  وظيفتها عرفية، سلطوية داخل مجتمعها المغلق، اكثر منها فعلية او سلطة عامة،  اهتمت بالشان العام  حتى يتسنى لها تحديد ملكية الارض، لان ذلك كان سيؤدى  الى زراعة الاراضي في المواسم، و استحداث نظام الري،  كما في المجتمعات الزراعية الأخرى..بينما معظم  ملكيات الارض، استند فيها على مبدأ   الرعي، والكلإ الموسي…

 

ولكن الملفت للانتباه ان الملكية لم تؤد الى استقرار فيها

 كنشاة القرى التي تؤسس للمدن  على اطراف الاودية، او على اطراف واحات النخيل،  لكن كان الاستقرار فيها موسميا في فترة الحصاد، خلافا للطرق التجارية، ونقاط تقاطعها، حيث تم الاستقرار القروي الذي ادى الى المدن، ك”شنقيط” ومدينة “تيشيت”، وتيجگجه”،،

ويلاحظ  ان المدن المحاذية للنهر حديثة مثل”كيهيدي ”  وهي  تجارية، ولم تكن زراعية..

وفي تقديرنا ان الملكية للأرض لم تكن عاملا رئيسا في دخل الاسرة، والقبيلة معا…

 وربما يكون مجتمع بلادنا، عرف نظامي : التبادل التجاري الذي حصل في فترة ازدهار التجارة قبل اكتشاف راس الرجاء الصالح 1497م. ثم الملكية الرعوية التي كانت العامل  الاساسي…

بيما ملكية الارض ارتبطت بالسلوك الاداري في محاولة من الادارة الفرنسية لتوجيه الراي العام نحو ملكية الاراضي، للأعتراف بها،  بمعنى استحداث عامل مساعد للخضوع لسلطاتها الادارية..

ولذلك يلاحظ ان القبائل  حرصت على تسجيل الملكية استنادا الى الاستقرار في المجال الرعوي ، وليس بدافع استغلال الارض واستصلاحها.

 

 

ولعل الأهم  في المقال ذلك الذي  شغل تفكير القارئ،  وهو المتعلق بعلاقة الدولة بالمجتمع القبلي  على حد التوصيف المذكور اعلاه، ولكن هناك “خلطة” عجيبة غريبة جراء

  تسمية  الأشياء بغير مسمياتها،،

  ذلك ان النظام السياسي محكوم بقيم المجتمع القبلي منذ ان تأسس  هذا النظام، ولم يعرف تطورا خلال الستين عاما من عمره،،فتاريخه  محصور في “ركن”  الزمن فيزيائي، وكان ـ ولازال ـ في دورة مغلقة.. تخلو من عوامل دينامية تعكس التطور الاجتماعي، والوعي الثقافي من  المستجدات، ومثال ذلك ديمومة الزراعة البعلية، وليس لزراعة الارز أثر يعتد به حتى الآن، وان كان،  فهو عامل دخيل …

 

اما من ناحية الاصلاح السياسي،  فهل طعمت ـ بتضعيف  العين ـ  التعيينات الادارية، او.التوزيرية ، او التسيير،  بغير توظيف عوامل:

القرابة، والجهوية، والقبلية،،

كما ان تعاقب الانظمة السياسية قد فرض الالقاب القبلية في ظل الحكمين: ..النظام المدني:  ــ المختار ولد داداه،  ثم ولد الشيخ وان كان الأخير حكم  فترة وجيرة، لكنها كانت كافية لتحكم  اشياخه في السينغال  وادخال عامل جديد استلابي ممثلا   لنفوذ الأممية” الطرقية” التي تعايشت مع النفوذ الفرنسي في الجزائر والسينغال..

والنظام العسكري كحكمي:  محمد خونا ولد هيدالة، وهو احسن الانظمة  من حيث  ارادته لاقامة نظام مستقل لاتتحكم فيه فرنسا واعوانها في الاقليم،  وتلك ظاهرة تستحق الاشادة به،  بعد ان  عرف الجميع ان الحرب والسلم في بلادنا كان خاضعا لمطالب اعوان فرنسا من حكامنا..

  ثم حكم ولد عبد العزيز رغم الفساد المالي..اما حكم معاوية،  فانه حالة استثنائية،  لانه جسد عودة فرنسا بكل صفاقة، حين حضر قادتها العسكريون واسقطوا الحكم سنة 1984..

 

وعلى العموم كان نظام القبيلة هو العنوان المقيد للحكم  في بلانا، وقد كان طرفا المعادلة متساويين، وهما: يحكمنا نظام القبيلة كذا، وقبله حكمنا  نظام القبيلة كذا .!

وكل الأنظمة لم تحمل سمات الدولة في الفكر السياسي، او في واقع الدولة في المجتمعات الحديثة

والامر يمكن تعميمه ــ سيادة التفكير القبلي ــ على واقع الاحزاب التي كان يتوقع ان تعبر عن وعي الحراك الاجتماعي، وتطور الوعي السياسي، لكن واقع الحال انها احزاب تعكس الواقع الاجتماعي،  ولاينتظر منها الا مزيدا من تكريس واقع التخلف الاجتماعي والثقافي، والسياسي ، فهي تراوح بين احزاب :

” اسرية” تعبر عن امتداد لهرمية السلطة منذ نظام ” الانتقاء”الفرنسي في توظيفه لشيوخ القبائل الذي اشار اليه الدكتور في مقاله على انه اجراء كان الهدف منه ” تكييف”  هرمية السلطة في القبيلة،

  لغرض جمع “العشر” الضريبة السنوية.. و احزاب” قبلية”،  و”جهوية”،  و”عرقية”، والأخيرة في حالة كمون، لكنها  تعبر عن نفسها في اكثر من واجهة، سواء أكان في الداخل، ام  في  الخارج…

ولعل هذا التشخيص، يعبر عن نفسه في ظواهر المجتمع ثقافيا وسياسيا…

 ومن اجل تجاوز هذا الواقع ، وميكانزماته، يتطلب الأمر وعيا مغايرا،  ينطلق من تحديد المشاكل اذا وقع اجماع فكري على أنها ظواهر “مرضية ” مزمنة

 ثم البحث عن حلول فكرية قبل العملية، لأن الأخيرة دون الأولى ستكون معالجتها للظواهر لاتختلف في شيء عن المحاولات العقيمة من الاخطاء القاتلة  كالطب “التقليدي” في بلادنا الذي يجسد مقولة ” داوني بالتي هي  الداء”

 

ولذلك نسال الدكتور عما هي مظاهر الصراع بين  النظام السياسي،  والقبيلة، ما دام النظام يجسد حكم  القبلية ؟

واين مظاهر الدولة الحديثة في بلادنا، اذا  استثنينا مؤسستي: الأمن الداخلي، والجيش،، ؟

 

وكالة أخبار نواذيبو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى