الأخبارالصدى الثقافيفضاء الرأي

ملاحظة على ” منهجية التاريخ في موريتانيا”/ إشيب ولد أباتي

في مراجعتي للمقالات المنشورة في موقع “موريتانيا الآن”، اطلعت على كتابات يعتد بها لباحثين وطنيين، وسيستفاد منهم في طرح الاسئلة المنهجية ،، ومن ضمن تلك المقالات  مقال بعنوان “منهجية التاريخ في موريتانيا “،( ميني أحمد ابراهيم، 7 اكتوبر 2020م)، حيث أشار فيه الى  ملاحظات  موضوعية، لكونها قدمت تساؤلات بحثية، قد  تبلور رؤية نقدية  تتعلق  بضرورة توظيف مناهج البحث التاريخي  التي اهملت بالكاد ـ حسب الباحث ـ  في البحوث العلمية، وفي الكتابات الحرة لدى  التأريخ  لفترات مختلفة من التاريخ العام  الذي قدمت حقبه استنادا الى اختيار مفردات ،” منهجية” ـ لاتعني المنهج ـ للمواضيع، وهي في مجمل ما قرأت ــ ولست محتاطا بكل الكتابات التي ذكر الباحث  في مقاله الممهورــ من تلك البحوث الموسومة بخاصتي  “الوصف” ، و”الاستطلاع “، وكأنهما لا تقيدان  الباحث  بتوظيف مناهج البحث العلمي حين التقصيرعن التحليل الذي يستند ضرورة الى مناهج البحث  من منظور المدارس التاريخية التي تركز على توظيف المنهج التاريخي الاستقصائي  في البحث عن نشأة الظواهر، وعن العوامل التي ساعدت على  حدوثها، وكذلك العوامل التي تفاعلت معها تاليا لمرحلة النشأة في اطار الاسناد، او العكس  العوامل التي أدت الى سقوط تلك الظاهرة التاريخية،، بينما الذي  تكشف في التأليف الاكاديمي، أن بعض الكتاب  لم يجيبوا على تلك الاسئلة التي ترفد  بحوثهم التاريخية بالمعطيات  المعرفية ومنها التوجيهية، وبدلا من ذلك قدموا حوادث  في اطار الوصف الخارجي، والاستطلاع الذي يشير الى ان الدراسة أولية، وكأن ذلك يعفو الباحث  من التقيد بالمستلزمات الأساسية في البحث سواء أكان بحثه لنيل الدرجة العلمية في السلك الأول، ام الدرجة المتميزة  بالتخصص الدقيق في السلك الثاني،،

ويمكن تصنيف التأليف  في التأريخ  الى:

1ـ تأليف  علمي لنيل درجة علمية ،،واصحابه غلب عليهم تقديم  الحوادث بالأسلوب الوصفي الخارجي الذي اقتصر على تقديم  الحوادث، كموضوع للبحث التاريخي الذي يحتاج الى آليات المنهج التاريخي  الذي يساعد على  استكناه الحوادث، فلو رجعنا الى بحث  لنيل درجة  علمية عن “حرب شرببه”، فان الباحث في التاريخ لايجد فيه استقصاء عن العوامل التي يصح وصفها بالموضوعية في تفسر الحوادث،  بل  وجد عوامل ذاتية غير مقنعة،،فهل يمكن لحرب في القرن  الذي اتسم  بالصراع على المستعمرات،  ومع ذلك لايذكر فيه  أي  دور للفرنسيين في الجنوب الموريتاني ، والبرتغاليين، والاسبان في الشمال،،وهناك اسئلة غائبة  تتعلق بمصادر السلاح ودوره في  انتصار أحد الاطراف المتحاربين، وانهزام خصمه، والجهات الخارجية التي ساعدت كلا من  الطرفين، او انهم قاتلوا بالعصي، واذا كان كذلك فاين الاشارة اليه في  ذلك البحث القيم؟!

وأخيرا ألم يكن  لدورالحرب في اضعاف الجبهة الداخلية عنصرا مهد  للسيطرة الفرنسية  بدون مواجهة رادعة، وهذا مؤشرعلى  احتمال أن خلفية  الاضعاف، والتقويض لقوى الداخل، ظهرت في الحوافزالتي هيأتها  قوى الخارج للمتحاربين سواء أكانوا على وعي بذلك أم لم لا،،؟

2 ـ العينة الثانية من البحوث العلمية، قد تأثر اصحابها ب”النظرية  الوظيفية ” ومنهجها الانتوبولوجي في تقديم  الاكتشافات للأثار الحضارية والتركيزعلى عناصرها الذاتية، والبحث عن القواسم المشتركة بينها، وبين غيرها  في اماكن اخرى.

 والانتربولوجية في فرعيها الثقافي، والأنتولوجي ـ علم الآثارـ مقسومة على كل من:

 أ ـ (المدرسة الانتشارية) التي يزعم روادها ان التفاعل القائم بين الحضارات الحديثة، هو امتداد للتفاعل الذي كان قائما بين الحضارات القديمة، ومن امثلة ذلك اكتشاف رسوم العربة الإيجية في موريتانيا، وفي مصر، وتركيا الخ، ومعروف أن المراكز الحضارة قديمة في بلادنا منذ ” مملكة غانا ” التي قامت منذ اربعة آلاف سنة، وهذا يعني انها واحدة من المراكز الحضارية المنتجة لمعطاها الثقافي والمادي، ويؤشر على عناصر التفاعل فيها مع غيرها من المراكز الاخرى خارج المجال الجغرافي، واوضحت الرسوم المكتشفة هذا البعد التفاعلي، ولعل التنوع البشري، وتعدد الطرق برا وبحرا،والانشطة التجارية عزز معظمها ذلك التفاعل، غير أن هذا التصور يتناقض مع رؤى اصحاب الاتجاه الاخر،،

ب ـ والاتجاه الآخر قصدنا  به  المؤيدون للتفسير الذاتي في ( المدرسة المركزية) التي  آثرت  دورالعناصر الذاتية المنتجة لمطالب أناس كل مركزحضاري، وتطوره في حدود الخصوصية  الثقافية، والبيئة الحضارية،،ولو ان تلك القواسم المشتركة العامة  في الحضارات القديمة، الا ان تفسير ذلك راجع الى عوامل داخلية، كالاستجابة للضرورات  المعيشية في المجتمعات البشرية، فاكتشاف “المنجل” في الزراعية، و”الترعة”  للري  في استصلاح الاراضي ، وغيرها من أساليب التي تعبر عن اشكال الانماط في الفلاحة، كما في الحضر حيث الانشطة الثقافية كالرسوم الجدارية، ونماذج اخرى من فن الظل،،

وللأسف فإن الانتروبوجية الوظيفية لدى المكتشف الفرنسي ” مونو”  لمملكة غانا، أسس للبحوث الأثرية  في بلادنا، بينما غابت البحوث  الموجهة برؤى الاتجاه التاريخي  التالي في الانتروبولوجيا لدي ” ليفي شتراوس”،، 

3 ـ  التأليف الحرالذي اهتم اصحابه بتقديم الحوادث بما هي معبرة عن وعي هؤلاء ثقافيا لذلك مزجوا بين التاريخ والثقافة، وكانت الرؤى  متشيئة بالواقع القبلي، والمتحيز للمجال  البشري العائلي، وكذا الجهوي،ولم يخف الانفعال بالحوادث من اسمائها، كالحرب بين القبائل، والتنافس اللاعملي، والتباغض المستند الى الخلفيات، وليس المبرر بالمصالح الآنية، وهذا مما يعوق وحدة المجتمع، وبناءه وفق اسس مستحدثة بما يقتضيه الوعي لدى الحراك الثقافي، والسياسي، والبحث  المشترك عن الحقوق المدنية للمواطن اينما كان في القرى، أوالمدن، وحيث كان لونه، ومكانته الاجتماعية، وانتماؤه العرقي،،

على ان هذه العينة من التأليف لم يراع فيها خصوصية العصر الراهن، بل تقديم المادة  التأريخية “الخام” وهي حاصل الصراع القبلي، والثقافة التجزيئية وفق الخصوصية القبلية، والجهوية، كالقول  هؤلاء شعراء القبيلة كذا الخ، ومنه ضيق مجال التحقيق للتراث، واهماله في مناطق اخرى على أن هذه العينة من التأليف شكلت احياء للتراث في تقدير هذا الرهط من المؤلفين، لكن السؤال الغائي هو:

 هل يستجيب لمطالب العصر رفد الوعي الثقافي في الحاضر والمستقبل بأحداث وقعت فعلا، لكنها ليست من مطالب الأجيال في مجتمع اليوم، وهي الاجيال التي تبحث عن وحدة اجتماعية مغايرة للسابقة التي ارتبطت باللادولة في عهد الامارات الاربع،، وحدة اجتماعية تبحث عن حضورها في الحاضر، والمستقبل، وعن احياء التراث المؤسس لهوية النهضة،، وليس احياء الاحداث الميتة التي لاتساعد على النهضة الفكرية المرجوة، بل تعيق حركة وحدة  مفاصل المجتمع الحديث في مؤسساته السياسية، كما في مدنه، وقراه،،؟

 وللأسف  فإن هذه المؤلفات ـ بدلا من ذكر اسماء المؤلفين ـ  تقدم حوادث التاريخ التي يجب  ابقاؤها مطمورة  في المقابر مع من ارتحلوا من الاوائل رحمهم الله تعالى، لأنها نقلت الينا مثالبهم في الشحناء، والتفرقة، اما ارثهم الحضاري الذي تركوا لنا فهو في المجالات المعرفية التي تشكل تراثا مشتركا للمجتمع، وللأمة،، ومن هنا تأتي ضرورة الاستفادة من رؤية غيرنا لحوادث التاريخ المفرقة للمجتمع، والمؤثرة على وعي الاجيال، كنظرة الفرنسيين للصراع الديني بين البروتستانت والكاتوليك في فرنسا، لذلك حظروا تقديمه في  البحوث التاريخية ،،  

أخيرا:

هل يتقبل الباحث منا الاشارة الى ان مدارس التاريخ أسست على  مناهج، ورؤى  بدافع الفهم والتفسير للظواهر، ومنها الاحداث التاريخية ، وليست مقتصرة على  “منهجيات”، عناصر البحث،  ـ فهرست ـ بمعنى مفرداته من اجل تفكيكه  والاحاطة بجوانبه، واقتضي ذلك ـ فيما اقتضي ـ  ضرورة الاستفادة من مناهج التحليل للمادة المعرفية ،،؟

وحين ذكرصاحب المقال أن” المنهجية الخلدونية التي تبنى  مادتها على حال العمران البشري وطبائع عيشه”، فهذه اشارة دالة على  الالتاباس الناتج من التعميم في القراءة، ذلك  ان منهج ابن خلدون في المقدمة، ليس هو منهجه في كتاباته التاريخية،،فالأول استند فيه على  المقارنة بين الظواهر لتحديد العوامل المساعدة على قيام الانظمة وسقوطها، وتوظيف القياس ، والاستنتاج الابتكاري، بينما كان في كتاباته التاريخية اتباعيا، مقلدا للمؤرخين العرب السابقين، ولم يختلف عنهم في شيء الا في واحدة تفوقوا عليه فيها، وهي انهم صرحوا بمصادرهم التاريخية في حين أنه  تكتم على مصادره، وهذا مأخذ علمي مس بمصداقية كتاباته التاريخية على رأي المعاصرين،، 

ولعل صاحب المقال ” منهجية التاريخ في موريتانيا” وقع في الذي نبه لتجنبه، وهو اهتمام  المؤرخين بالجمع بين اكثر من مجال معرفي،،

ويعزز ذلك تساؤله التالي: “فهل يكتب التاريخ المحلي شاملا من جديد وفقا لمنهجيته المختلطة؟”

أتمنى عليه ان يسعى للمطالبة بكتابة التاريخ العام، أوالتاريخ الجزئي ولكن وفق مناهج  البحث التاريخي، وليس  وفق  المنهجيات المختلطة، لأن ذلك يمثل اندفاعا ـ غير مبررـ في سرب المؤرخين موضوع انتقاده في مقاله الجميل،،

والله الموفق.

إشيب ولد أباتي- وكالة أخبار نواذيبو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى